على مرّ العصور عرف المبدعون، أنه حيث تكون سلطة، يكون هناك نفي. السلطة تريد الولاء التام، لا يكفيها أن يمنحها أخد اليد، بل تريد الكتف كله، إذا لم ترد كل الجسم. كلما ازداد الموالون لها كلما أصبحت السلطة أكثر نهماً، عينها حتى على أولئك الذين صمتوا ليس لأن ليس لديهم ما يقولونه، بل لأنهم يعرفون أن ما سيقولونه سيقودهم للموت حتماً، هناك فارق بين أن يكون المرء أخرساً وبين أن يكون صامتاً. الخرس مرض بيولوجي. الصمت موقف. ذلك ما يعرفه الطرفان. السلطة والمبدع. شعار الديكتاتور الدائم هو: من ليس معي هو ضدي. من يصمت عنده موقف من السلطة. ومن يعارض، يغامر بحياته، مصيره معروف: أما ميت تحت الأرض، أو وراء القضبان في السجن، أو منفي خارج حدود "الجنة" الوطن. وبقدر ما كانت فكرة السلطة قديمة، بقدر ما كانت فكرة المنفى قديمة. بكلمة واحدة، السلطة والمنفى متلازمان، الأولى تريد الولاء المطلق، الإذعان، والثانية تريد الحرية، الإبداع. تاريخ البشرية هو تاريخ للنفي في الحقيقة. فكرة المنفى تلازمت مع أبينا الأول آدم وأمنا الأولى حواء. جرد بقائمة أسماء الرسل والأنبياء، سيرينا كيف أن جميعهم كانوا منفيين، النبي إبراهيم تنقل من مكان إلى آخر، وعلى خطاه سار ولداه اسماعيل واسحاق، النبي موسى قاد شعبه في الخروج الكبير باتجاه الأرض الموعودة، النبي عيسى اختفى ثلاثين عاماً، عاش هارباً من بطش الجنود الرومانيون حتى القوا القبض عليه وصلبوه، النبي محمد هاجر "منفياً" إلى المدينة، القائمة تطول وتطول، أما فيما يخص الأدب فأغلب الانجازات العظيمة في الأدب والفن أُنجزت في المنفى: طرفة بن العبد، المتنبي، عروة بن الورد، دانتي، الاسباني سرفانتس، الإنكليزي لورد بايرون، البولندي جوزيف كونراد، الألماني هاينريش هاينة، الألماني ياكوب ميشائيل راينهولد لينتز، الألماني جيورج بوشنير، الإنكليزي إزرا باوند، الإيرلنديون أوسكار وايلد، صاموئيل بيكيت وجيمس جويس، الألمان: هيرمان هسة، راينر ماريا ريلكة، أيريش ماريا ريمارك، برتولد بريشت، توماس مان، هلينا فايغل، بيتر فايس، ستيفان تسفايغ، ليون فويشتفينغير، الفريد دوبلين، ليونارد فرانك، الكوسموبوليتي المتعدد الجنسيات ألياس كانيتي، اللبناني جبران خليل جبران، الاسبان: رافائيل ألبرتي، أنطونيو ماتشادو، لويس غيرنودا،( ومعظم جيل 27 من الشعراء الأسبان )، التشيلي بابلو نيرودا، التركي ناظم حكمت، السنغالي ليوبولد سنغور، الروماني يوجين يونسكو، الغواتيمالي ميغيل أستورياس، الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، الأرجنتيني خوليو كورتازير، البيرواني ماريو بيرغاس يوسا، الإيراني صادق هدايت، الباكستاني محمد إقبال، الروسي جوزيف بروديسكي، التشيكي ميلان كونديرا.. الأمر لا يخص الأدب فقط بل يطال الإبداعات الأخرى حتى ان القائمة تطول لتصل إلى الموسيقيين: البولندي شوبان، الأرجنتيني لويس كارديل، الألماني كورت وايلد، اليونانية إيرين باباس، واليوناني ميكيس تيودوراكيس، التركي سُفلا نيلي، اليونانية ماريا فارنتوري ، والرسامين: الإيطالي دافينشي، الروسي كاندينسكي، والروسي شاغال، الاسباني بيكاسو، الهولندي فان كوخ، والتشيكي أندي فارول..بل أن كل مجد هوليوود تأُسس على أكتاف المنفيين: البريطاني تشارلي تشابلن، الألمانية مارلين ديتريش، الألماني ميشيل كورتز، الألمانيان فريتز لانغ وبيلي وايدر، وغيرهم. ومثلهم أسس المبدعون الذين غادروا بلاد الشام ـ بسبب جور العثمانيين ـ لفن المسرح والغناء وفن الطباعة في القاهرة في بدايات هذا القرن: أمثال خليل مطران، الريحاني وجرجي زيدان وغيرهم.. وهل هناك حاجة الآن أيضاً لذكر الكتّاب الأميركان من "الجيل الضائع" الذين اختاروا الرحيل إلى باريس في الثلاثينات بحرية: سكوت فيتزجرالد، دُجونا بارنر، هنري ميلر، أرنست همنغواي، ترومان كابوته.. وغيرهم ... القائمة تطول وتطول، وكلما أضفنا اسماً جديداً، كلما ثبت لنا: المنفى كمكان لا ينضب للإبداع.
المنفى كمكان لا ينضب للإبداع
[post-views]
نشر في: 14 يوليو, 2015: 09:01 م