TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ومن الجمال، تغليف كيس الحلوى أيضاً

ومن الجمال، تغليف كيس الحلوى أيضاً

نشر في: 14 يوليو, 2015: 09:01 م

في المطعم الذي على البحر، بنابولي مرة حيث كنت هناك، وعند المدخل المنجور من الخشب الماهوغني الصقيل، أخذت النادلة قفطاني الاسود السميك مع المظلة، هزتها لمرات في الفسحة الصغيرة التي أمامها فتساقطت حبات مطر مسائي، كذلك فعلت مع القفطان. ولأن الاصدقاء دخلوا قبلي فقد كنت آخر الداخلين، سحبت الكرسي الخيزران وجلست. كانت الموسيقى خفيفة، مثلما الغروب الذي نزل تواً، وسوى من وشوشة حديث الجلساء لا أسمع شيئاً. وضع النادل يده الشمال خلف ظهرة وراح يملأ الكؤوس بالماء القراح مرة وبالمائع الزبيبي الأحمر مرة أخرى ثم انهالت الصحون مليئة بما جادت الطبيعة به من المُصَوّفِ والمُرَيشِ والمُزَعنَفِ ..
قد لا تكون السطور هذه مدخلا لقصة قصيرة، فأنا لا أجيد الفن الرفيع هذا، لكنني توقفت عند القطعة الباذخة من الحياة هذه، التي تتكرر كل لحظة هناك وفي أمكنة أخرى من العالم، حيث لا مسعى من أحد لتقويضها، أو إهمالها أو التقليل من شأنها، لأنها نتاج تحضر وفعل مدني، وهي فعل من تعلق بروح عصره، وهي جهد إنساني عابر للقارات، لا يختلف عن أي سلعة تصدر إلينا، لا تقل شأناً عن أي ممارسة حياتية متطورة أخرى، علينا ممارستها في البيت والمدرسة والشارع والسوق وفي الحديقة العامة .
ذات مرة وقد دعيت الى مأدبة في أرقى مطعم بإحدى المدن الجنوبية، كان الطعام لذيذاً، وكان المطعم جميلا بمناضده ومقاعده وفي أشياء كثيرة. وحين اكمل النادل جلب كل شيء فوجئت بعدم وجود شوكة بين الأواني الكثيرة التي على المنضدة، وحين سألت عنها أجابني النادل بأن زبائنه لا يستخدمونها، هم يأكلون اللحم المشوي (الكباب) بالملعقة أو باليد. لم يهمس لي بذلك إنما قالها بصوته المسموع من الجميع. أنا هنا لا أعترض على سلوك ما، ففي اليمن مثلاً، وفي أعلى جبال(المحويت) تحديداً يسكبون العسل من جرّة على قطعة الحلوى التي امامك، في فعل بدائيِّ، ينم عن حسن ضيافة وعن عطاء غير منقطع، وفي الجنوب او الوسط من العراق، عندما تحل ضيفاً على أحد الشيوخ هناك، سيعيب عليك إن أكلت بالملعقة، والاكل باليد دلالة قبول منك لضيافته، وهي من وجهة نظره مرتبة في الكرم وعنوان سخاء عنده. لكنك في المطعم الفاخر غير ذلك.
شعرت بالضيق وأنا أتابع يد عامل الحلويات الإيراني، في المصنع الصغير الذي قرب بيتنا وهي تعيد مسح الطاولة التي يقف عليها، فهو يمسح ويعيد المسح ويكرر الغسل ويستبدل قطعة القماش ثم يمسح ويعيد المسح.. وهكذا راح يفعل ذلك مرات ومرات حتى بدت طاولة الألمنيوم ناصعة براقة نظيفة. كانت بذلته بيضاء بخطوط زرق، بسيطة لكنها أنيقة لا أثر من دهن أو حلوى عليها، وكان حديثه همساً، وحين راح يغلّف ويسلفن الحلوى التي اشتريتها منه، ظل يعمل ذلك بأناة ودقة من يريد أن يقول لك إن الحضارة لا تتجزأ، وإن صناعة الجمال التي تكمن في اللوحة والرسم والسينما.. هي في علبة الحلوى أيضاً.
لا أعرف من قال لي بأن الناس في اليابان لا يفضل من طعامهم شيئاً، فالياباني يأخذ من الطعام قدر حاجته، وفي بلدان أخرى هنالك شركات تعمل على تدوير فضلة الطعام لتعبئتها ثانية كوجبات ممتازة ومن ثم تسويقها للبلدان الفقيرة في أفريقيا وآسيا. أكتفي بالمثالين هذين وأنا أتأمل ما يفضل من اطنان الطعام التي يلقي بها(الاسخياء)من أصحاب الموائد( الكريمة)في مناسبات التزويج والعزاءات الشخصية والحسينية والرمضانية. لا بل أتأمل فضلة الطعام التي ترمي بها زوجتي في النهر بعد كل وجبة إفطار رمضانية.
على الطريق بين بغداد والبصرة اخذنا سائق السيارة الى المطعم الذي يريده. فأكلنا على وفق ما أراد هو، لم يعاملنا النادل بوصفنا زبائن إنما بضعة دنانير. جلس السائق في مقصورة يأكل طعامه الذي أعد له، وتركنا في الصالة القذرة، نأكل ما بين أيدينا. وحين غادرنا رأيت السائق مسرورا وهو يتسلم كارت رصيد هاتفه من صاحب المطعم.
هنالك فجوة فهم عميقة بين ما يجب أن تكون عليه الحياة بمعانيها وممارستنا لها من جهة وبين الكرم والبذل والوجاهة من جهة أخرى، مثلما هنالك فجوات ضوئية تفصلنا عن السلوك الانساني المتحضر المدني وبين الهمجية التي يسميها البعض بالعادات والتقاليد. نحن نهمل مع ما نهمل ما بين أيدينا مما انتجته الانسانية من سلوك وممارسات، ونصرُّ على بدويتنا في المطعم والبيت والسوق والمؤسسة. ان لا تطلب الشوكة في المطعم يعني أنك اهملت شرطاً من اشتراطات الذوق، وأن يعلو صوتك في مكان عام، يعني أنك لا تحسن احترام الآخرين، وأن تخرج لضيفك بثياب النوم يعني انك تفقده صورتك البهية التي في ذهنه عنك. نقول ذلك والعيد على أبوابنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي

إدارة الاقتصاد العراقي: الحاجة الملحة لحكومة اقتصادية متخصصة

د. سهام يوسف بعد مصادقة المحكمة الأتحادية على نتائج الانتخابات الأخيرة، يقف العراق على أعتاب تشكيل حكومة جديدة. هذه الحكومة ستكون اختبارًا حقيقيًا لإصلاح الاقتصاد العراقي المتعثر، حيث تتوقف عليه قدرة البلاد على مواجهة...
سهام يوسف علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram