TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > رموز خارج الزمن ... النصب – الشهيد

رموز خارج الزمن ... النصب – الشهيد

نشر في: 25 يوليو, 2015: 12:01 ص

(وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار ) ، وان من العمارة لما يتفجر منها الحياة، فلا تعود تختص بزمن أو عصر معين، بل أن من العمارة ما تتجاوز حتى المكان الذي أنشئت عليه، وتتجاوز في دلالاتها الحدث الذي أنشئت بسببه ومن أجله. وكلما أمعنت العمارة في التجرد

(وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار ) ، وان من العمارة لما يتفجر منها الحياة، فلا تعود تختص بزمن أو عصر معين، بل أن من العمارة ما تتجاوز حتى المكان الذي أنشئت عليه، وتتجاوز في دلالاتها الحدث الذي أنشئت بسببه ومن أجله.
وكلما أمعنت العمارة في التجرد وفي الصرحية كلما تحررت من أطر النفعية Functionalism وتجاوزت في رمزيتها تلك العوامل التي تربطها بأمر محدد كعامل المكان والزمان وعامل الحدث والعقيدة الانية. وهي نتاجات معمارية نادرة تتفتق عن عبقريات غير عادية.
ربما يحاول البعض أن يصف إهرامات مصر بأنها مجرد قبور لفراعنة طغاة، غير أنها وان كانت كذلك فإنها تجاوزت برمزيتها المدهشة وصرحيتها المهيبة حدود المكان الذي بنيت عليه فلم تعد ملكا ً لمصر بل للعالم أجمع، ولم تعد تختص بزمن بل لكل العصور. فمن قتل رمزا ً كهذا كأنما قتل حق الناس جميعا.
وأنشئ برج ايفل الخالد كمنشأ نصبي لحدث مؤقت هو المعرض الدولي لباريس لعام 1889 غير أن البرج بعبقريته وجرأة مصممه ستيفن سوفيستري استحال الى عمل خالد تجاوز ذلك الحدث بجدارة وأصبح معلما ً من معالم تلك المدينة الساحرة المليئة بالرموز وبروائع العمارة، وليس من المبالغة اذا قيل أن باريس نفسها أصبحت تعرف ببرج أيفل، أو أن احدهما يعرف بالاخر.
ولايقل موضوع الحديث هنا – نصب الشهيد – أهمية أو عبقرية عن تلك الرموز والصروح. لقد تضمن هذا العمل الفني والمعماري في آن واحد – موضوع الحديث هنا هو العمل النحتي للنصب للفنان اسماعيل فتاح الترك أكثر مما هو عن العمل المعماري القابع تحته لمصممه سامان أسعد كمال – من الصرحية Monumentality والرمزية Symbolismوالجمالية Aesthetic والتجريد Abstraction والبساطة Simplicity والنقاء Purity ما يجعله يقف في مصاف تلك الاعمال الخالدة، وما يجعله يقف خارج الزمن الذي أنشئ خلاله وخارج المكان الذي يحتويه وخارج الحدث الذي بني من أجله.
الى جانب ذلك فقد استخدم مصمم العمل هذا عددا ً من الرموز والنسب والمبادئ التصميمية الاسلامية وبشكل نقي وادراك دقيق لمفاهيم ليست باليسيرة كمفهوم الشكل والفضاء والتناسب واللون، تلك المفاهيم التي عادة ما تفشل في تبنيها حتى المباني الدينية كالمساجد وبالخصوص تلك التي أنجزت في ذات الفترة الزمنية. حتى ليتساءل المرء كيف قيض لهذا الفنان أن ينجز عمله بهذه النقاوة وبدون تدخل من النظام الأهوج الحاكم آنذاك والذي كان يحشر أنفه حتى في أدق تفاصيل الاعمال المعمارية والفنية رغم جهله الفاضح ؟
لقد جاء شكل القبة بشطريها بنسب جمالية أخاذة لتصنع فضاءها الخاص – المقدس – في هذا الموقع الشاسع، وبنسب متوازنة من السهل على الناظر ادراك علاقتها بشكل القباب الاسلامية وخاصة المستخدمة في الأضرحة. يبدو من تحليل شكلها أنها أقرب ماتكون الى قبة الامامين العسكريين (ع) في سامراء. كما أن اختياره للون الفيروزي لسطوح شطري القبة وابتعاده عن الالوان الاخرى وتجردهما من الزخارف والنقوش والاطر والأفاريز وخلوهما من تفاصيل أخرى كالهلال والسنام منحهما درجة عالية من الروحانية والصفاء.
لقد عمد الفنان الترك الى تنظيف وتنقية عمله من كل ما يربطه بالفترة التي بني فيها وبالفلسفة الضيقة التي اريد لها، فأصبح صرحا ً يلائم كل العصور، وهنا يدرك المرء ذكاء وفطنة الفنان وكأنه أستطاع خداع كل النظام الدكتاتوري الذي أراد منه ان يصنع صرحا ً يخلد به زمنه، فجاء بصرح لكل الازمنة، بل لعله خارج الزمن. يذكر ان الفنان الراحل اسماعيل فتاح الترك سُئل لمن ينجز هذا العمل بهذه الكلفة العالية فقال "انه للأجيال". وتشير بعض المعلومات الى أن العمل كلف نحو ربع مليار دولار في حينها – عام 1983 – وتضمن العمل مساحة شاسعة بلغت ما يقرب من 42 هكتارا ً يتسقر النصب فيها على دائرة بقطر 190 مترا ً يعلو متحفا ً ضخما ً الى الاسفل منها. ومع أن كلفة المشروع تبدو باهظة فقد كان النتاج رائعا بشتى المقاييس وقامت بتنفيذه واحدة من أعرق شركات العالم وأقدرها وهي شركة متسوبيشي وطبق مواصفات وضوابط صارمة لشركة أوف أروب البريطانية الرائدة في انجاز روائع العمارة والانشاء كمبنى دار الاوبرا في سدني (1959-1973) بكلفة 102 مليون دولار استرالي، ومبنى 30 St Mary Axe في لندن (2001-2003) بكلفة 138 مليون باون، ومبنى التلفزيون CCTV في بكين (2004-2012) بكلفة 850 مليون يورو ، وفندق مارينا باي ساندز الهائل في سنغافورة ( 2011) بكلفة 8 مليارات دولار، والكثير غيرها.
ومع أن كلفة المشروع باهظة في حينها – لايبدو أنها الكلفة الحقيقية للمشروع في الواقع - ، الا أن اضعاف هذا المبلغ يهدر الان في مشاريع غاية في السطحية بل والكثير منها في مشاريع وهمية لايتعدى وجودها مخططات فقيرة لاقيمة لها.
ان القدرة على الخداع – ولنقل الالتفاف – من قبل المعمار أو الفنان لاظهار أفكار معينة يؤمن بها على حساب الفكر المهيمن على الواقع أو الممول للمشروع وعلى الاخص حين يكون الفكر دكتاتوريا ً متزمتا ً ليس بالامر الهين او اليسير ، وأن تحقق فأنه يدل على عبقرية فذة نادرة في تأريخ العمارة والفن يحضر الى الذاكرة منها ما أنجزته عبقرية مايكل أنجلو وديلا بورتا الذي تبع خطاه في تصميم قبة كنيسة سانت بطرس في مركز الفاتيكان والمعارضة الخفية لديكتاتورية الكنيسة آنذاك. ولايختلف الامر كثيرا ً في نصب الشهيد وفي عبقرية الفنان اسماعيل فتاح في الالتفاف على الفكر الدكتاتوري لحزب البعث والخروج بتصميم لايتفق مع هذا الفكر لامن قريب ولا من بعيد، تصميم بفكر روحاني نقي غير متأثر بعبثية الحزب الحاكم آنذاك. ولذا فقد جاء هذا التصميم الضخم المقياس خاليا ً من كل الرموز التي تربطه بذلك الفكر مترفعا ً بتكوينه عن أن يلتصق بفكر آني هو الى زوال لامحالة. في الحين الذي لم تستطع مبان أخرى ذوات وظائف روحية خالصة كالجوامع من التخلص من الفكر الديكتاتوري فتقمصته بشكل سافر أفقدها هيبتها وبهاءها كجامع الرحمن في المنصور في بغداد.
ان الدعوات المتكررة لهدم هذا الصرح الرائع لاتملك أي رصيد من المنطقية. اما الدعوة المقابلة الهادفة الى الحفاظ عليه فتستند الى مبررات عديدة يكفي الاشارة الى اثنتين مهمتين منها:
- القيمة المعمارية والفنية العالية للمنشأ والفلسفة النقية التي يشتمل عليها مما تجعله يقف في مصاف الاعمال الرائدة والخالدة . كتبت سرى العميدي في الحوار المتمدن العدد 2517 بتاريخ 5/1/2009 " فقد عدته موسوعة المعارف البريطانيه ثاني اضخم عمل فني في الوجود بعد الاعمال الفرعونيه في مصر.".
- خلو المنشأ من الرموز التي تربطه بفترات حكم جائرة او دكتاتوريات عانى منها المجتمع، وبالعكس من ذلك فإنه يرتبط وبوضوح بالفلسفات الروحية المشتركة للشعوب ففيه الكثير من الرموز والتمثل الاسلامي الخالص. وبالرغم من ارتباط النصب بالحرب فقد جاء المنشأ خاليا ً من ملامح الحرب والقتل والقوة كما هو الحال مثلا ً في السيوف القبيحة لساحة الاحتفالات في بغداد والتي مازالت قائمة دون اعتراض.
جدير بالذكر ان العنصر الوحيد الذ يرتبط بحكم الدكتاتورية هو العلم العراقي بكلمتيه ( الله أكبر ) واللتين أضيفتا فيما بعد ومازالت الحكومات الحالية تتمسك بهما في هذا النصب وفي غيره بالرغم من الايحاء المذهبي والطائفي لهما فهما يخصان الاغلبية في المجتمع العراقي ولكن بالتاكيد ليس كله.
أما ارتباط المنشأ بفترة زمنية معينة فلا يشكل مبررا ً لهدمه ، فقد ارتبطت الكعبة ولمدة طويلة بالعصر الجاهلي وعبادة الأوثان غير أن ذلك لم يكن مبررا ً لهدمها ، وارتبط الجامع الاموي بالعصر الذي كان فيه معبدا ً وثنيا ً ثم تحول الى كنيسة فجامع ولكن ذلك لم ولن يشكل مبررا ً لهدم صرح معماري رائع مثله.
ان السلطة التي تعمد الى إلغاء الآخر لمجرد امتلاكها السلطة من خلال محو الآثار المتبقية منه حتى مع امتلاكها قيمة معمارية عالية، انما تحكم على آثارها بالالغاء من قبل القادم الجديد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram