يمكن القول أن عصر الأنوار في الغرب مثّل انتقالة كبرى في موقع المثقف فاعلاً في الحياة العامة، وملتزما قضايا اجتماعية ذات مساس مباشر بحياة المجتمع، وصاحب دور مؤثر، سياسياً وأخلاقيا، في حركة التاريخ كما يشير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي أسس للفلسفة المثالية فتأثر به كل من يوهان فيخته وفردريك شلنغ وجورج فردريك هيغل وشوبنهاور وغيرهم من مواطنيه الكبار، ليضعها فيلسوف الثورة الاجتماعية كارل ماركس تحت مجهره وقلبها رأساً على عقب كي تقف على قدميها.
وما ذكرُ هذه الأسماء سوى إشارة إلى ذلك النشاط العقلي (العقلاني) الذي أنار طرق البحث والتقصي بغية الوصول إلى الحقيقة.
.. ولكن من هم المثقفون؟
المثقفون جماعة تشتغل في الكلام والكتابة عند ضرورات الجدل بشأن سيرة المجتمع وأزماته في محاولات حثيثة لم تتوقف من أجل إضاءة المعتم وإدراك ضرورات التغيير.
يصنف الفرنسي جيرار ليكلرك في كتيّبه المهم (144 صفحة) "سوسيولوجيا المثقفين" (*) العمال والموظفين والمزارعين بأنهم ينتمون إلى "عالم العمل" ويضع الأطباء والصحافيين والمحامين في "عالم الوظائف" أما المثقف فهو شخص بلا وظيفة فما يقوم به "ليس شكلاً من أشكال العمل ولا هو مهنة".
ولأن ليكلرك عالم اجتماع ويعد بحثه في "سوسيولوجيا المثقفين" مشروعاً "يتعلق باختصاص فرعي ما زال قيد التشكل" فهو يميل إلى طرح الأسئلة أكثر من الأجوبة، ليعود إلى فكرته الآنفة موضحاً:
"هل يكون المثقفون طبقة اجتماعية، فئة يمكن إحصاؤها، شبكة من المتجانسات؟ هل يشكل المثقفون مجموعة محددة المعالم، متجانسة، ويمكن تعريفها بسهولة؟ هل يستجيب المثقفون لوظيفة محددة جداً (يمكن أن نطلق عليها هنا اسم "الوظيفة الذهنية") أو هل يقومون بنماذج متعددة من الأنشطة الاجتماعية، ذات الطابع السياسي، الثقافي... إلخ؟".
يركز ليكلرك على نقطتين جوهريتين، بين نقاط أخرى كثيرة، الأولى هي "ازدواجية المثقف" لا كما يجري تداولها بشعبوية كوميدية، بل نتيجة لقوتين ثقافيتين تتجاذبان المثقف هما الأرث الثقيل من الموروثات التقليدية الكبرى، الدينية والتاريخية، التي تعود إلى عصور مغرقة في القدم، والثانية هي اهتمامه بالنشاط الدنيوي (المعاصر) "عبر ولادة الدولة العلمانية الحديثة حيث تتطور وتتضاعف النشاطات الدنيوية من خلال العلم والتكنولوجيا والثقافة العلمانية ووسائل الإعلام... إلخ".
أما النقطة الثانية فهي علاقة المثقف بالسلطة، إذ ينبثق السؤال النقدي، دائماً، المتعلق، قديما وحديثاً بدور المثقف منذ أن كان خادما للأمير والكنيسة وحارساً للاهوت حتى التجاذبات اللاحقة بين أن يكون المثقف في خدمة السلطة (أو يقبل باستخدامها له) وتمسك المثقف باستقلاليته تجاه هذه السلطة أي "بالإمكان التحدث عن "سلطة ثقافية" كنوع ثقافي مناهض للقوة المسيطرة".
يتعاطى المثقف الغربي، كاتباً أو باحثاً أو فيلسوفاً، بشكل عام، مع قارئ غربي، أي أن ثمة افتراقات كبيرة وفجوات واسعة بين المجتمع الثقافي الغربي والآخر العربي، على أن الأمر لا يتعلق بالغربيين أبناء حداثتهم التي صنعوها بأنفسهم، عبر كفاح مرير، نظرياً وعملياً، وبين "حداثتنا" المقلدة، الببغاوية، وهذا لا يلغي مجتمعنا الثقافي المنتج، بأسمائه المؤثرة (خصوصاً في مجال الأدب إذ ليس لدينا علم!) ويقر ليكلرك، بدبلوماسية مهذبة بأنه وضع كتابه لقارئ فرنسي (في مقدمته للطبعة العربية) متجنباً الإشارة إلى الثقافة العربية!.
"مجتمعنا الثقافي" عربياً مأزوم مرتين: في الثقافة وعلاقاتها بنفسها من جهة وعلاقة المثقفين بمجتمعهم العام، سياسياً وسيكولوجياً وأخلاقياً، من جهة ثانية، وهي معضلة مركبة لا مجال لتفصيلها، هنا، غير أن تراجع الثقافة طردياً مع تعاقب الدكتاتوريات وتكرار الحروب وفشل آخر الأحلام بـ"الربيع العربي" واتساع ظاهرة الإرهاب، تصبح الثقافة ومنتجوها هدفاً مركزياً لأنظمة الاستبداد العربي وحروبها وإرهابها وهذا ما لم يشهد مثله أي بلد أوروبي في عصرنا الحديث.
(*) جيرار ليكلرك، سوسيولجيا المثقفين، ترجمة الدكتور جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2008.