اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > الممثل الكاولي

الممثل الكاولي

نشر في: 28 يوليو, 2015: 12:01 ص

 عندما تسود روح الظلام وتنهزم روح الأنوار فإن الكثير من ممارسات الحياة تضمحل، تنأى، ولعل أولى تلك الممارسات هي الفنون. مثل هذه الجملة ليست اكتشافاً من قبلي، بل هي حقيقة قارّة جرّبتها شعوب كثيرة قبل أن نجرّبها اليوم في العراق، وبأسف شديد!
وأنا م

 عندما تسود روح الظلام وتنهزم روح الأنوار فإن الكثير من ممارسات الحياة تضمحل، تنأى، ولعل أولى تلك الممارسات هي الفنون. مثل هذه الجملة ليست اكتشافاً من قبلي، بل هي حقيقة قارّة جرّبتها شعوب كثيرة قبل أن نجرّبها اليوم في العراق، وبأسف شديد!

وأنا مدمن يوتيوب، ذلك الصندوق السحري الذي يأتيك بما تحبّ وترغب بكبسة زر. ولكنه للاسف الشديد يعرض عليك اقتراحات مجاورة، فيدخلك، دون أن تقصد، بما لا تحبّ ولا ترغب. هكذا دخلت على حفل "خاص" بحضور السيد محافظ (...)، الفضول وحده دفعني لذلك، ولقد كان المحافظ في الفيديو رزيناً على عكس ما توقعت. افترش الأرض، وجلس إلى جانبه رجلان، وأمامه مجموعة من بنات الغجر، الكاولية، وهن يتراقصن، بينما جلست مسنّة، هي زعيمتهن على ما يبدو، على بساط مقابل مجلس السيد المحافظ، وأمسكت بمايكرفون لتغني أغنياتها الشعبية. الحق أقول: أن هذا المشهد، الذي تجري أحداثه في منزل متواضع، لا شيء فيه، بالنسبة لي، يثير الأسى غير حضور ممثل كوميدي، ذلك الحضور الذي لا يختلف، قيد أنملة، عن حضور راقصات الكاولية. يطلب المصور من هذا الممثل، وبلهجة آمرة ساخرة، أن يقوم من مكانه، حيث يجلس منزوياً على حصير رقيع، لكي يرقص مع الراقصة، فيفزّ هذا الممثل طائعاً، يدور دورتين وثلاث من الرقص البذيء مع الراقصة المحترفة، تلك التي تتقن إظهار مفاتنها إلى جوار مواهبها، ثم يعود أدراجه لمكان جلوسه، ويتكرر المشهد مرة أخرى!
من هم هذا الممثل؟ ليس مهماً أسمه، ولكن من المهم توصيفه: انه ممثل كوميدي من أبناء (هالوكت). بينه وبين فن التمثيل ما بين البحر والنجوم. تلقفته المسارح الاستهلاكية (التجارية) في التسعينيات لأنه لا يجيد دوراً سوى دور المنصوب عليه. وبعد العام 2003 صار نجماً تلفزيونياً إذ توقف الانتاج المسرحي الاستهلاكي إلى حين، وبدأت الفضائيات بالتناسل، وهذه تدخل إلى كل البيوت، فصار نجماً. 
انه، إذن، يظهر في التلفزيون كثيراً، يقوم بذات الحركات البذيئة، مع شيء من النمذجة التي تفرضها شروط الكاميرا. يظهر إلى جانبه ممثلون محترفون، محترف هو الآخر كما هو معلوم! وهؤلاء لا يجدون غضاضة في الوقوف أمام الممثل الكاولي، لماذا؟ لأنهم يشبهونه كثيراً بالرغم من أن أكثرهم كانوا قد درسوا فن التمثيل، وتخرجوا من أعرق معاهده في المنطقة، وهو معهد الفنون الجميلة في بغداد. لا يستحون من ذلك أبداً، أن تكون كاولياً في هذا الزمن الرديء يشبه أن تكون رجل دين، أو شيخ عشيرة. يشبه أن تكون شاعراً شعبياً أو سياسياً حتى. العيون مشرئبة لشيء واحد: الانتشار والمال. 
قبل سنوات طويلة كتبت عن الممثل الكوميدي المهرج. كانت اللغة أكثر رقياً من لغة اليوم. فاليوم نتحدث عن الممثل الكاولي لأنه ابن المرحلة، المرحلة التي صنفت الجميع على أنهم مجرد قطيع بلا رأي أمام راقص بالجسد وراقص باللسان، بالاستعارة من فيلم "الراقصة والسياسي". 
وهذا ممثل آخر، تنقل بين الإضحاك والإبكاء، وفي المجالين كان بارعاً، يدرك أن المجالين لهما جمهور واسع. شأنه شأن ممثل، كنا نعده على النخبة من ممثلينا، فإذا به يقبل بأرخص الأدوار مقابل أكبر الأسعار. حدثني صديق، كاتب درامي، عن هذا الممثل قائلاً: رشحته لعمل تلفزيوني كبير، وبحكم صداقتي معه راهنت عليه، ولكنه خذلني، لماذا؟ لقد طلب أجراً مرتفعاً جداً. 
في الحقيقة والواقع! ان هذا الممثل يحصل على أجر مرتفع، فلقد ظهر في شهر رمضان وهو يجيد التلفظ بما يعجز عنه العاملون في درابين الحيدرخانة أيام مجدهم المهدور. بمناسبة وبدونها يشتم زملاءه الممثلين وينعتهم بـ: القنادر، وهؤلاء يبتسمون إذ جاءتهم الشتيمة من النجم الكوميدي دون سواه، سيخلدهم اليوتيوب، وسترتفع نسب المشاهدة فيه إلى درجة غير مسبوقة. ممثل صديق حدثني قبل سنوات عن مشاركته في مسرحية رديئة من أجل "العيشة"، قال: كان المشهد يتطلب أن أصفع زميلي الممثل سين. وفي اللحظة المواتية صفعته بلطف احتراماً لإنسانيته، فتصور ماذا كانت ردة فعله؟ لقد غضب هذا الممثل مني، أنّبني لأنني لم أصفعه بقوة، صرخ في وجهي خلف الكواليس: كان عليك أن تصفعني بقوة كي أسقط أرضاً فيضحك الجمهور! 
هذا نموذج يسعد بامتهان كرامته أمام الناس، والحجة هي الكوميديا!
الكوميديون الذين ظهروا في دراما رمضان، المسلية، هذا العام، تسابقوا في تعليمنا فن الابتذال، أو لنقل بصريح العبارة: علمونا كيف تكون الكاولية الحقة. انهم يتبارون في امتهان كراماتهم، بل وإظهار ذلك الامتهان على الشاشة الصغيرة. 
ما يحيّرني حقاً في ظاهرة الممثل الكاولي هو إقبال الأطفال على مشاهدتهم. منذ سنوات وأنا أرقب النجاح منقطع النظير الذي يحققه هؤلاء في وجدان الأطفال. لاعترف لكم: ابنتي ذات السنوات الثلاث تستمتع كثيراً وهي تراهم يتراقصون مثل القردة على شاشة التلفزيون، أفتكون ابنتي هذه تفهم في الفن الذي يقدمه هؤلاء في الوقت الذي لا أفهم منه شيئاً؟ انها ظاهرة محيّرة. تلفّت حولك ايها القارئ الكريم، وقم بسؤال أطفالك عن ذلك وستجد الجواب لا يختلف كثيراً عن الذي أبثك إياه. 
من الواضح أن التمثيل الكوميدي في العراق موهبة هو أيضاً، ولكنه موهبة صغار العقل ولا شك. عليّ أن أستدرك واقول أن ثمة استثناء، ولكن هذا الاستثناء لا نكاد نميّزه. فالذي يحتل الشاشات التلفزيونية هم صغار العقل، أولئك الذين ارتضوا أن يكونوا مسخرة، أو كاولية بعبارة أدق. أولئك الذين لديهم القدرة والجرأة على السخرية من الشخصية العراقية، من التاريخ العراقي، من الفن العراقي، من الغناء العراقي. يظهرون بكامل الأريحية لكي يسفّهوا عقوداً من البناء، لا لشيء إلا من أجل أن يصلوا إلى نكتة سمجة يضحك عليها الأطفال. 
قال الراحل الكبير خليل شوقي أمام مجموعة من الفنانين في التسعينات: لقد ناضلنا عقوداً من أجل تغيير مصطلح كاولي ألى مصطلح فنان، وها هو تلفزيون الشباب ينسف ذلك بإغماضة عين فيعيدنا جميعاً إلى خانة الكاولية. 
ان ألعن ما يمكن أن ينتجه الممثل الكاولي في الوجدان الشعبي هو في نمذجة فن التمثيل على شاكلته، أي في أن يعتقد الناس بأن الممثل، وفن الممثل، هو هذا الذي يرونه في الفضائيات: كاولي، لا أكثر ولا اقل. ومن المؤكد الآن أن بعض الممثلين، ممن يقرأون كلامي هذا، يقولون في سرّهم: ولهذا صارت مهنة التمثيل عيباً، وحتى حراماً...
البركة بالممثل الكاولي!
******
*أجدني ملزماً بالتوضيح بأن هذا المقال لا يتقصد الانتقاص من الغجر، بأي حال من الأحوال، بوصفهم بشراً. وإنما هو استثمار اصطلاحي يقتضيه مقاربة الأداء المبتذل بين الفنون الدرامية التقديمية العلنية وتلك التي تمارسها مجاميع بشرية خارج السياقات العلمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. محمد كريم الساعدي

    صدقت يا رائع هكذا أصبح الفن اليوم في العراق

  2. هادي معله حسين

    أحسنت قراءه واقعيه لما يحدث من انحطاط وأبتذال في محاوله لتشويه وجه المسرح الجاد والرصين الذي تعلمناه في كلية الفنون الجميلة قسم المسرح وعلى يد أساتذه كبار .... دمت بألف خير صديقي الغالي عبدالخالق كيطان مشتاقين جدا

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram