جوكاستا: ما هي طبيعة المنفى؟ وما الذي يجعله قاسياً؟
يولينيس: ثمة أمر واحد أسوأ منه، وهو ألا يمكن أن يفصح عما في باله.
جوكاستا: لكن تلك هي العبودية، من قبيل العبودية ألا يتمكن المرء من الإفصاح عما في أفكاره..
(يوربيديس، "الفينيقيات")
عدد كبير من الكتّاب لم يختر نفيه بحرية، كان مطروداً من " بلاده". ترى هل كانوا أضافوا للإنسانية شيئاً، لو جلسوا وكتبوا المرثيات فقط. الكثير منهم كان يشعر أن ابتعاده عن بلاده بالذات هو ما يجعل رؤيته أكثر سعة. فهل نرى الأبراج العالية، الفنارات، المنارات، القبب وأبراج الكنائس لو جلسنا تحتها؟ "كلا"، سيجيبنا حتى ذلك الشخص غير المتخصص بالأدب، "على العكس، لو جلسنا بعيداً، لكنا رأيناها أجمل!". وفي كل الأحوال من الأفضل للإنسان أن يُنفى منه أن يبقى تحت ظل سلطة لا يمكنه أن يفصح عما يفكر به؛ وذلك ما تحدث عنه يوربيديس في الفينيقيات، التي استشهدنا بها في مدخل المقالة. على هذا الأساس: "ليس "المنفى" ـ الذي يقصده هؤلاء المعنيون بالسياسة أكثر منها بالأدب ـ بالضرورة سيئاً للمبدع، على العكس، فهو يزوده بهواء أكثر نقاءً، يجعله بعيداً "العبودية" وعن ذراع التحريم بشقيه الرسمي والاجتماعي ( بما فيها التحريم الشخصي ذاته) وأقول المبدع لأن ليس كل كاتب منفي هو بالضرورة مبدع، ولكن كل مبدع هو بالضرورة منفي، فبالتالي أن "الكتابة الجميلة هي كتابة ثورية" كما قال ماركيز( هو الذي لم يعش في مناف عديدة وحسب، إنما كتب في المنفى عمله الخالد "مائة عام من العزلة"، فضلاً عن " ليس للكولونيل من يراسله"، (روايته الأولى التي كتبها في باريس). رواية ماركيز، مثلها مثل "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، و"في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، و"غيرنيكا" لبيكاسو، و"المدينة والكلاب" لبيرغاس يوسا، و "أوليسيس"، لجويس، و"أضواء المدينة" لشابلن، و"النبي" لجبران وغيرها..هي أعمال ابداعية أُنجزت من مبدعين شباب بدأوا إبداعهم في "الداخل" وغادروا عندما شعروا بالحاجة لتنفس هواء نقي ليكملوا طريقهم في "المنفى"، وأقول في المنفى، لأنهم ربما لذلك السبب أبدعوا بلوعة لكي يعوضوا عما أرادوا أن يُنجزوه عندما كانوا داخل الجغرافية "الوطنية" و"القومية". بهذا الشكل يصبح المنفى هو تكملة للتجربة التي بدأها الكاتب "هناك"، فالمبدع هو الذي يشعر أساساً أن تجربته لم تكتمل ولن تكتمل يوماً، لأن أفق الإبداع مفتوح دائماً، يُضاف إلى ذلك شعوره بغربته عن "الوطن" سواء أكان هنا أو هناك، والـ"هنا" والـ "هناك" ظرفا زمان ومكان يتبادلان المواقع وفق قوة لوعة المبدع وإصراره على الإبداع وتحالفه الدائم مع غائب وعدم إذعانه إلى سلطة مؤقتة، فقط أولئك الذين لم يغادروا البلاد بسبب الاضطهاد والتمرد على السلطة بشقيها السياسي والاجتماعي لن يكون بمقدورهم إنجاز أي عمل إبداعي، لأنهم لم يُفكروا أصلاً بإنجاز هذا العمل حتى عندما كانوا هناك، بسبب التربية الحزبية الشوفينية التي تقبلوا النمو على مبادئها القاتلة التي لا تسمح للتنوع وللتجديد في الحياة. فمن لم يشعر بالحيف والاضطهاد "هناك" سيواجه الصعوبة في القفز على ظله، والكتابة بحرية "هنا"، وسيشغل نفسه بأمور تافهة لا علاقة لها بالإبداع. "لا يجب الثقة بالروائيين الذين يمتدحون بلادهم: أن الوطنية فضيلة رائعة لدى الجنود والبيروقراطيين..إلا أنها فقيرة في مجالات الأدب. فالأدب بصورة عامة، والرواية بصورة خاصة، معبران عن عدم الرضى. وتبرز منفعتهما الاجتماعية في أنها تُذكر الناس أن العالم على خطأ دائماً..وأن الحياة يجب أن تتغير دائماً"، كتب ماريو فيرغاس يوسا. ولا يُمكن للكتابة أن تكون بهذه الخلفية دون التورط بـ "هجاء الحاضر". ومن البديهي أن الكاتب لن يجرؤ على تلك المغامرة دون توفر الحرية؛ الحرية الداخلية قبل كل شيء، والتي هي شرط الإبداع، والتي لا تعرف مكاناً: لا تعرف "وطن" و"منفى"، وأي قيد لها من "خارج" الكاتب أو من "داخله" سيحد من مخيلة الكاتب ويُجعل إبداعه يجذب. آه يا لوطأة الأوطان فينا!