TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الجملة الاعتراضية في النقد الأدبيّ الراهن

الجملة الاعتراضية في النقد الأدبيّ الراهن

نشر في: 7 أغسطس, 2015: 09:01 م

لستُ من أنصار تأويل الجملة الاعتراضية كما أوَّلها النحويون والقواعديون، الكلاسيكيون والجدد، بصفتها لا محلّ لها من الإعراب، وليست لها وظيفة نحويّة (كأن الوظيفة النحوية ليست وظيفة معنىً أيضاً)، ولستُ من القائلين إن الجملة الاعتراضيّة يمكن حذفها دون أن تتأثّر الجملة الأساسية، وأنّ لها معنيين رئيسيين: الدّعاء والتّفسير (كأن التفسير أمر قليل الشأن).
أحْسَن تأويلاتهم للجملة الاعتراضية تذكر أن الغرض منها هو التوكيد وتقوية الكلام وتحسينه، والتعليل، وبيان الحكم، والاهتمام، والاحتراس، وكلها وظائف جوهرية يقع التقليل من شأنها في الخطاب النحويّ التقليديّ.
إذا كانت الجملة الاعتراضية هي التي تقع بين شيئين متلازمين؛ كالمبتدأ والخبر، أو كالفعل والفاعل، أو كالصفة والموصوف فإن ما يقع (بين) إنما هو شرخ، هو برزخ، هو معنى أضافيّ أقوى من المعنى الأصلي أحياناً. اقرأ الآية المأخوذة مثالاً على تقوية الكلام وتحسينه: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ). إن الاعتراض بـ (ولن تفعلوا) إنما هو فحوى الموضوع وجوهره وليس هنا لتحسين الخطاب.
عندما تفرض الجملة المعترضَة، وهذا هو اسمها الآخر، نفسها وسط أجزاء الجملة الحقيقية، فإن فعل الاعتراض من القوة بل العنف بمكان بحيث أنه يُقْلق المعنى الأول ويَشْخص رديفاً له، كما في العبارة (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم). هنا يقع التشديد على العلم، على إظهار قوة العلم والإيحاء بخلافه، الجهل. المضمر عبر (لو تعلمون) يشير إلماحاً لقضايا أخرى كبيرة، إضافة إلى بُعده النفسيّ التحذيريّ أو التوبيخيّ وقوّته الشاخصة.
نفرّق بين استخدامين للجملة الاعتراضية: التقليديّ والحديث. عند قراءة كتاب "الجملة المعترضة في القرآن: مفهومها وأغراضها البلاغية" للدكتور سامي عطا حسن مثلاً، وبعد التعرّف على أغراضها التقليدية الواقعة، حسب رأيه، في التنزيه، وتسديد المعنى، والتنبيه على أمر هام، ودفع الإيهام، والتعظيم، والتوبيخ، وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر يتعلق بهما، والتعجيز، والتحدّي، يرشح أن الجملة الاعتراضية، صيغة مُبْهِرة، ذات وظائف أصلية تندسّ في ثنايا الجملة الأصلية، بمهارة، وتبدو للوهلة الأولى وكأنها محض جملة عابرة، في حين تقوم بقول معنى جديد، مداوَرَةً وبتلقائية عالية. لو تأملنا غالبية تلك الأغراض لوجدناها واقعة في سياق الوظيفة النفسية.
وهناك حسبما نرى الاستخدام الحديث للجمل الاعتراضية، الذي يقطع الجملة ليضيف معلومات، ويضيء طرفاً، ويستدرك على طرف آخر، ولكن أيضاً ليمرّر أفكاراً أخرى لتبدو من صلب الخطاب، وإنْ لم تكن. أنها تشخص كتلاعب بارع، أو حيلة بلاغية لقول غير المرغوب بقوله صراحةً. تبدو الجملة الاعتراضية في تاريخ النقد، الشعريّ والأدبي خاصةً، وغير الأدبيّ على وجه العموم، هي جوهر كلّ موضوع: الفحوى العميق للنص، بحيث يصير ما يحيطها مراتٍ كلاماً مألوفاً، رفيعاً أو أقلّ شاناً.
الجملة الاعتراضية في الخطاب الحديث تستهدف، من بين ما تستهدف، إضفاء الظلال واللُوَيْنات على الفكرة بحيث تبعدها عن أحادية الأسود والأبيض. وبحيث تستطيع تلمُّس المفارقات والتناقضات التي تنطوي عليها الأفكار والمصنّفات والشخصيات المُعالَجة، من دون استبعاد الخطاب المتخابث الذي يقول شيئاً ويُوْحي بشيء آخر. ولو تأملنا في غالبية أنواع الاستخدام الحديث للجملة الاعتراضية لوجدناها واقعة في سياق دلاليّ سيمونطيقيّ، ينطوي بدوره على البعد النفسيّ.
أضع الـ (لكن) في هذا السياق، وإن لم يُعتبر ما بعده جملة اعتراضية، رغم أنه حرْف يفيد (الاستدراك). لا نجد فارقاً حاسماً بين (الاعتراض) و(الاستدراك)، فتصير الـ (لكن) والحالة هذه من أشهر صيغ الاعتراض بالمعنى الحديث للمفردة: إذ مهما كان إيجابيّاً فحوى ما قبلها بشأن موضوعه، فإن ما بعدها يقوم بالتخفيف وإقلال وإضعاف وتلوين الفحوى برمته.
بين إضفاء اللُوَيْنات على الخطاب والتلاعُب به عبر الجملة الاعتراضية، ثمة إشكالية جديرة بالانتباه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram