اختطت (المدى) منذ صدور العدد الاول لها، مطلع آب 2003، خطا مختلفا في ميديا العراق الجديد. فبينما انشغلت النخبة الصحفية بتعويض عقود القمع وتكميم الافواه بسعي "راديكالي"، احيانا، لحجز اوسع مساحة ممكنة لحرية التعبير، كانت (المدى) مشروعاً يرمي الى ما هو أبعد من الحرية، على الرغم من الايمان بأهمية هذا الاشتراط لتدشين عهد ما بعد الاستبداد.
لم تكن الحرية غاية في حد ذاتها لمشروع تنويري كـ(المدى)، الذي ولد من رحم عقود من النضال، بقدر كونها "مسؤولية" تندرج تحتها كل شروط الفعل النخبوي المؤثر في بلاد خارجة للتو من تيه الحروب والديكتاتوريات.
في لحظة انهيار مدوي لدولة العسكرتاريا، كان يبدو الحديث عن "حرية مسؤولة" ضربا من البطر، وضربا من الفنطازيا النخبوية. فتجلى ذلك واضحا عبر مئات المشاريع الصحفية والاعلامية التي ظهرت فجأة وبشكل ارتجالي في ربيع الديمقراطية آنذاك.
التوق لكسر جدران "القسوة والصمت"، امتد من الورق الى الارصفة والشوارع، فتحولت جدران المدن الى "سوشيال ميديا" تضج بالشعارات والاحلام التي اطلقها سقوط تمثال الفردوس.
كانت ولادة (المدى) / الصحيفة، حلقة في مشروع تنويري يضع المسؤولية الى جانب الحرية كمحدد ضروري وجوهري لتوجيه المشهد العام، لا سيما فيما يتعلق بالفعل الثقافي بوصفه محركاً اساسيا في تنضيج التغيير وخلق مناخات ملائمة لاستمراره ودفعه باتجاه النجاح.
اذا كان الانحياز لـ"الحرية" خيارا انسانيا يتسم بشيء كبير من العاطفية، فان تبني "الحرية المسؤولة" يعتبرا خيارا عقلانيا محضا، يشبه الى حد كبير الحفر في الصخر بيد غير مسلحة. من هنا انطلقت (المدى) واستمرت في الدفاع عن خيارها الوجودي، ومن هنا توقف الآخرون واخفقوا في مواصلة مشوارها.
لقد وفرت الحرية المسؤولة هامشاً كبيراً لخطاب (المدى)، رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها خلال اثني عشر عاماً من عمرها، وعززت من مصداقية تعاطيها مع الازمات التي شهدها العراق منذ 2003. فلم يكن امراً سهلا التمسك بالمشروع التنويري في الوقت الذي تتصالح مع تيارات دينية تحظى بتمثيل شبه كاسح للارادة الشعبية، ولم يكن الامر يسيرا بالمرة عندما تؤمن بعراق موحد في لحظة اقتتال طائفي واشتباك قومي وانسداد سياسي انتهى بانهيار امني وسقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم ارهابي ظلامي.
احد الزملاء قال، ذات مرة في لحظة تندر بريئة، ان (المدى كالمراهقة على جميع الصحفيين المرور بها). ورغم واقعية التشبيه لجهة الاغراء الذي تمثله الصحيفة لاجيال الشباب من زملائنا، الا ان (المدى)، برأيي، مرحلة للعقلانية والمسؤولية يتحتم على الجميع المرور بها.
عندما نتطرق لـ"الحرية المسؤولة" في (المدى)، لا يعني ذلك بالمرة وجود "ضوابط" مكتوبة يتم املاؤها على الصحفي الذي يعمل في الجريدة او المفاصل الاخرى للمؤسسة، بقدر كونها لوائح اخلاقية مهنية يتبناها المناخ العام الذي ولدت من رحمه الصحيفة قبل اكثر من عقد.
في هذا الاطار، تتجلى مسؤولية (المدى)/ المؤسسة، نظرا للامكانيات المادية والمعنوية المتاحة، بضرورة ضخ دماء شابة في اوردتها الاعلامية، والافادة من تجربة "اساتذة الكار" الذين يديرون مفاصلها بكل حيوية وشباب، وحافظوا على بريق مهنة المتاعب في سنوات الاحباط الماضية. المسؤولية ايضا تحتم على (المدى) التحول الى مصنع عراقي لتخريج اجيال جديدة من الصحفيين المؤمنين بـ"الحرية المسؤولة".
كصحفيين عراقيين بحاجة للتباهي، امام زملائنا العرب والاجانب، بمؤسسة توسع من تقاليد العمل المهني في بلد تسوده الفوضى الاعلامية. كصحفيين عراقيين نستشعر الحاجة لمؤسسة تستثمر التراكم الكمي لـ"صاحبة الجلالة"، وتحويله الى تجربة نوعية تساعدنا لبناء مستقبل مهني اكثر مسؤولية واقل انفلاتا مما نعيشه الآن.
حيث الحرية مسؤولية
[post-views]
نشر في: 8 أغسطس, 2015: 03:04 م