يتذكر اغلب العراقيين تصريحا نادرا للعبادي قبيل تشكيله كابينته الوزارية، في مثل هذا الشهر من العام الماضي، عندما تحدث حينها عن "حكومة تكنوقراط رشيقة غير مترهلة". لكن هذا التصريح ضاع وتبدد صداه في زحمة الصراع المحتدم آنذاك على تشكيل حكومة "التوافقية" و "المقبولية".
وقتها كان الخوف من انهيارات اخرى قد تشهدها البلاد، يفرض على الجمهور، وحتى على المرجعية لربما، القبول بتشكيلة "غير مثالية"، تحمل على قسماتها امارات الترهل الذي سينتهي الى ذات الطريق المغلقة التي اصطدمت بها الحكومات السابقة، وهو العجز والفشل في تقديم الانجازات.
كان داعش، حينها، على ابواب بغداد، وكان الاستنفار الامني على اشده خشية وقوع الكارثة وتسرب القتال الى شوارع وازقة العاصمة. وسط انقسام الداخل، واستعداء الخارج، وانهيار جيش بعدته وعدده امام بضع مئات من الارهابيين، انصاع الجميع لتشكيلة العبادي التي اشتكى منها في "خطاب الثقة" امام البرلمان الجديد آنذاك.
التغيير الذي حتمته ظروف ما بعد سقوط الموصل، كان مهماً وجوهريا، لكنه للاسف طال رأس الهرم فقط ولم يتجاوزه الى الكابينة الوزارية ولا حتى الى الاداء الحكومي والبرلماني الذي ظل يراوح مكانه طيلة الاثني عشر شهرا الماضية.
لقد بدأ مسار الانحراف في تشكيلة العبادي من اختيار "مزدوجي الجنسية" لمناصب هامة، وهذا بحد ذاته مخالفة دستورية صارخة، بالاضافة الى تمرير قائمة الوزراء بصفقة السلة الواحدة، وهو ما فتح الباب امام عودة المحاصصة على اساس الولاء والمساومات، في توزيع الوزارات، بعيداً عن معايير التكنوقراطية التي رفع شعارها العبادي منذ تسلمه خطاب التكليف.
واذا كان الحديث عن تحاصص وتقاسم "كعكعة السلطة" يدور خافتا او هامسا منذ 2003، فانه بدأ يتصاعد بشكل صارخ اثناء تشكيل حكومة العبادي، حتى صارت الكتل السياسية تتحدث عن تشكيل "لجنة توازن" تأخذ على عاتقها اعادة تقسيم الدولة والمؤسسات على مقاسات اثنو/طائفية، وتتصدى لها اطراف سياسية تدعي تمثيلا ابديا لهذا المكون او ذاك.
لقد بدأت تظاهرات صيف 2015 خدمية وانتهت سياسية بنشر قائمة مطالب ركزت على انهاء المحاصصة ومكافحة الفساد. بدأت التظاهرات ساخطة لتحميلها اعباء الازمة المالية التي افرزها الفساد المالي وسوء الادارة الذي تورطت به النخبة الحاكمة. لم يعد المواطن العادي يتحمل مشاهدة نحت مناصب وعناوين "فضائية" لشخصيات فرضتها اعتبارات تقاسم السلطة، لكن معاناته متواصلة من انقطاع التيار الكهربائي، وانعدام الخدمات والبطالة المتفشيين، وارتفاع معدلات الفقر، والاسوأ الاغتراب الذي يعيشه في بلده.
لحسن الحظ، حتى الان، فقد فشلت محاولة بعض الجهات السياسية بابقاء مطالب التظاهرات في اطار خدمي يسهل معه تشتيت تركيز الشباب المحتج من البصرة الى بغداد، وزجه في دوامة الوعود التي اعتاد الطاقم الحكومي ترديدها منذ عقد على الاطاحة بنظام صدام.
لقد منح موقف مرجعية السيستاني موجة الاحتجاجات الشعبية دفعة قوية باتجاه الاصرار على مطالبة رئيس الوزراء حيدر العبادي باصلاحات جذرية وشجاعة، لا يكتفي باقل من تعديل وزاري او تشكيل حكومة تكنوقراط يختارها بنفسه تأخذ على عاتقها مواجهة تركة الفساد وسوء الادارة، وتخضع لمحاسبة برلمانية مسؤولة، تبتعد عن الابتزاز والمساومة التي شلت الاداء التنفيذي في الاعوام الماضية.
اغلب المراقبين يتوقعون اسبوعاً صعبا لحكومة العبادي، التي لم تبلغ عامها الاول، وهي تواجه موجة احتجاجات ناضجة تناغم فيها الشارع وأيدتها ابرز المرجعيات الدينية، وبلورت اهدافها بكل وضوح ودقة عكس احتجاجات 2010 و 2011، وحتى اعتصامات 2013 في المناطق الغربية.
يقف العبادي، بوصفه ايقونة التغيير والاصلاح، في مواجهة طرفين، احدهما يتمسك بالمحاصصة ومغانمها، وطرف آخر، يمثله تحالف الشارع والمرجعية، يطالب بالخروج من ارث الفساد والمحسوبيات، والانتقال من الدولة المعطلَة الى الدولة الفاعلة.
لن يقبل تحالف الشارع / المرجعية اي اصلاحات لا تعمل على تسليك "شرايين الدولة" التي تكلست وشارفت على اصابتها بجلطة قاتلة، فالبلاد بحاجة الى اكثر من "قسطرة".
من أين يبدأ العبادي؟
[post-views]
نشر في: 8 أغسطس, 2015: 09:01 م