الصدفة وحدها جعلتني اقرأ رواية " طشاري " قبل "الحفيدة الأمريكية" ومع ملاحظتي المركزية حول البناء السردي ، وتباين الموضوع ، وتعدد الشخوص واتساع الزمن في الوحدات السردية الرئيسة ، وجدت بأن أنعام كجة جي منغمسة بالذاكرة وابتكار آليات استعادتها بما ينسجم
الصدفة وحدها جعلتني اقرأ رواية " طشاري " قبل "الحفيدة الأمريكية" ومع ملاحظتي المركزية حول البناء السردي ، وتباين الموضوع ، وتعدد الشخوص واتساع الزمن في الوحدات السردية الرئيسة ، وجدت بأن أنعام كجة جي منغمسة بالذاكرة وابتكار آليات استعادتها بما ينسجم مع البؤرة السردية في عملها الروائي . ويبدو لي بأن الحفيدة الأمريكية ، أضاءت مجالاً عاماً وفاعلاً في تصورات الروائية وهي العلاقة مع الذاكرة والتاريخ والتنويع عليهما . واتضح بأن "الحفيدة الأمريكية"، أكثـر تمركزاً حول ذلك ، بحيث اشتغلت الرواية على الجدة "رحمة" ، دالة على عمق الذاكرة وصفاء التاريخ والحفر وراء موتيفات بسيطة ، لكنها تومئ لما هو جوهري ، واعني العلاقة مع المكان واستحضار سرديات مسموعة / منقولة عن أهلها ، جعلت منها شابة منتمية لمكانها ، الذي أنتج تاريخاً مجيداً من التنوع والتعايش والتجاوز مع هويات عديدة .
وبرز دور الروائية واضحاً في التأكيد على حيوية الجدة رحمة ، بياض الطائفة المسيحية ، ونقاوة العقل ، وشفافية الروح ، في التعامل مع وطن اسمه العراق . وكيف استطاعت هذه العجوز من صياغة مرويات خلقت تعايشاً مع المسلمين وقتال ذلك رضاعة الطاووس للطفلة " زين " بعد إصابة والدتها بالتفوئيد . هذا نوع رفيع إنسانيا في ابتكار المرويات وتجديدها ، وفعلاً ظلت حاضرة طويلاً ، وتمظهر هذا بالعلاقة بين " زين " وحيدر / ومنتهى . التشاكل الثقافي والديني وتنوع التبادلات بين المجالين المختلفين دينياً .
اكتشفت " زين " الغريب والعجيب من مرويات جدتها " رحمة " والتركيز عليها ملمح بنائي قصدي ، مهم وجوهري ، لانه جعل من مرويات رحمة مجالاً فاعلاً ومركزياً ضمن مساحة السرد الموزعة بين قطبي الوطن / الاحتلال . تمركز الوطن / الذاكرة / المرويات كثيراً بعد لقاء الجدة بحفيدتها الأمريكية في تكريت ، ومن هناك ، ظلت حكايات الجدة متنامية لتتسيّد فضاء السرد ، وتحولت مركزاً للصراع .
المثير للدهشة والانتباه ، هو دقة أنعام وقصديتها في إشاعة الطاقة الشعرية في سردها لمرويات مضت وظلت مهيمنة بذاكرة " زين ، زينة ، زنوبة / استعادتها اعترافا بالتشكيلات الثقافية المبكرة ، التي كانت الطفولة ومردداتها ابرز تلك المرويات . وقد احتلت هذه مكاناً هو الاستهلال في الرواية ، إذا شطبنا الفصل الأول الذي ختمت به الرواية ، وجعلته استهلالا ، مانحة هذه التجربة ميزة أن تكون البداية ، هي نهاية العمل الروائي .
الطفولة حضور شعري ، بالغ الدلالة والتأثير ، وخصوصاً في لحظات استعادة الموروثات الغنائية الشعبية ، وحكايات القائلة الخاصة بعلاقة الأب والأم مع أطفالهما ، وما الذي فعله الأب وما الذي أرادته الأم من أطفالها ، صراع ثقافي / ديني خفي ، لكن مرونة الأب وهيبته وصفته العامة كمذيع ، جعلته أكثر تأثيراً في الأطفال الذين تعلموا واتقنوا اللغة العربية .
استعادة المرويات الموروثة ودور الجدة في تنمية ذاكرة " زين " تعبير واضح عن قوة الماضي واستحالة تفكيك عناصره الثقافية المكينة ، لذا ابتدأت " ديل ... ديل ... ديلاني / بعشيقة وباحزاني / راح باباع الضيعة اشترى كشمش وقضامي / أكلتها الدامي / طلع زوجها حرامي ص12//
الموروث الشعبي العميق ممتد بين الأجيال ، حتى بعد حصول تحولات مجتمعية ثقافياً وسياسياً . لان الطفولة عتبة مثيرة ومغرية ، ومحفزة على الاحتفاظ بها كمكونات ثقافية مبكرة ، تظل حية يتداولها الجميع وتصير مركزاً متفقاً عليه ولا يمكن مغادرته ، فهذه المرويات التي استعادتها " زين " نافذة واسعة للعودة للوطن ، عبر طفولتها المبكرة ، وهذه ـ المرويات ـ قادت السرد والتحولات فيه ، وعمقت الصراع الذي فجرته الجدة رحمة ـ صوت الماضي / التاريخ / العميق ، المشرب بتفاصيل حضارية ، من هنا تميز السرد بالاستعادة الشفافة والنابضة بالحنين والوجع ( تهزني جدتي رحمة جيئة وذهاباً بعد أن تجلسني بمواجهتها في حضنها الدافئ . صدري الهش الصغير يقابل نهديها المترعين بالعافية ، يطفحان من صدريتها القطنية البيضاء / ص12
استعادة صور الماضي ، بعيد الغور ، تبدّى عبر حوارات طويلة ، ارادتها الروائية ، تعبيراً عن حضور التاريخ باعتباره سرديات حرة ، لا مفاضلة بينها ، بل جميعها كاشفة عن مرآة العائلة وتنويعها المثير .
سرديات العائلة / تاريخها المضيء / المشرق الذي تم نخله من بين سرديات غفيرة وظلت الحكايات الممجدة للعائلة . ليس هذا فقط ، بل لوضع الحفيدة الامريكية امام قوة التقاليد الموروثة والآتية من عمق المسيحية أو روح الأشورية . ولان أنعام كجة جي ، فنانه مرهفة ، ذهبت نحو حشد علاماتي ، لترسم عبره عن صراع خفي ودفين ، بين الحاضر والماضي ، ولم تكن الجدة رحمة مغالية بل موضوعية عند استحضارها للتاريخ ، ظلت قيمه تستعاد سردياً .
" هل نسيت يا زينة ؟ اليوم ستة كانون الثاني ... عيد الجيش . فهمت ما كانت تؤديه من طقوس . الم يواصل جدي يوسف الاحتفال بهذا العيد ، على طريقته ، بعد أن طردوه من الجيش / ص90/ ظلت الحفيدة الأمريكية منشطرة بين أصولها وما اكتسبته من أميركا ، واحتدم الصراع الداخلي قوياً وعسيراً ، ولم تستطع منذ لحظة اللقاء الأول مع الجدة رحمة ، حسم الأمر واتخاذ قرار نهائي الا بعد عذاب مرير وجدل معقد . ولم تتمكن الخلاص من تراكماتها الثقافية وانشدادها لمرآة المرايا . الجدة رحمة ، وكل ما تعرفت عليه من علاقات حاضرة مع الجدة والطاووس وحيدر ، ومهيمن صاغت مرحلة ثقافية جديرة ، بقيت آثارها محفوظة ويقظة وعبرت عن ذلك بوضوح عبر إيجازها السردي الدقيق ( عدت من بغداد خرقة معصورة من خرق مسح البلاط ... خرقة كاشي ، هكذا عدت ... أمر بأنني عدت مقهورة ، مهملة بحصى الشجن / ص10//
كثيراً ما ركزت التفاصيل السردية في رواية " الحفيدة الأمريكية " على أن المراحل المهمة وحصراً التحديثية ، نجحت بإنتاج ثقافة وخصائص مهينة لم تذهب لها أنعام بشكل ثقافي مباشر ، وإنما اعتمدت مرويات / وحشداً من العلامات الحاضرة بديلاً عن اللغة ، منحتنا فرصة القراءة والتأمل وتصاعد الجدل بين الوافد / زين وبين الأصل ، الجديد يوسف كما هو ، متحرك في ذاكرة العائلة / الجدة رحمة وما استعادة البدلة العسكرية للعقيد الركن يوسف الساعور الا شفرة واضحة المعنى ومكشوفة الدلالة لما تعنيه المهنية العسكرية العراقية في مرحلة انفتاح العراق على أفكار الحداثة والتطوير ( فإذا استيقظوا ، في صباح بارد وجدوا الجد يلمع نجمات بدلته فهموا أنها ليلة عيد الجيش ومع كل تغيير في بيادق النظام ظل جدّي ينتظر هاتفاً يدعوه الى العودة للجيش / ص93//
ويعمق السرد الشفاف ثنائية العلاقة بين الحفيدة الأمريكية والجدة التي تحولت صوتاً أو ضميراً حيا للعائلة ولأصلها . وازدادت الفجوة وأدركت " زين " استحالة إرضاء الجدة ، كما اقتربت هي أكثر فأكثر منها ، واستطاعت قراءة ملامحها وفك شفرات كلامها المجازي والغوص في أعماقها ، وصار بعضها مؤثراً عليها .
ـ سحبت العجوز رأسها من فوق صدر زينة وتطلعت إليها باستهجان ـ لا تتفوهي بمثل هذا الكلام في الغرفة التي اسلم فيها جدك الروح احترمي ذكراه على الأقل .
ـ هنا مات
ـ هنا فوق هذا السرير ... كانت نعمة ربانية أن يموت قبل أن يرى الاحتلال ويراك
لم تر زينة دمعة العجوز في القمة ، لكنها شمتّ رائحتها ، شاهدت صوت جدتها شاحباً ومتهدجاً / ص115//
يبدو لي بأن أنعام كجي جي عرفت جيداً المنفى واكتشفت أسراره وقرأت عن فلسفة الأنا والآخر ، لذا تلمست أهم المراكز الثقافية والفكرية التي اشتغل عليها لينفناس المفكر الفرنسي المنشغل طويلاً بالهوية وأشكالها ، من خلال الأنا والآخر ووظفت أنعام أهم المجالات في معرفته وهو الاستبدال والذي ابتدأ بسيطاً وتنامى شيئاً فشيئاً حتى يحقق وكانت زينة ، زين ، متحولة من هويتها الثانية لتحط تماماً في مكان جدتها وتحقق الاستبدال الذي نما وتحقق عنصراً بنائياً مهماً في هذه الرواية . وهذا لم يشطب على مجال لينفاس الأول : العلاقة وجهاً لوجه التي امتدت طويلاً في الرواية الى أن هيمنت ( وضعت بدلتي الخاكية في كيس ورميتها في برميل المطبخ . لم ازرع في الخوذة ريحاناً . العطر لا يعيش في الحديد .... البيوت هناك تقصف ومقاهي الانترنيت لن تتحمل الشظايا .... لم اجلب معي هدايا ولا تذكارات . لا احتاج لما يذكرني بها .)
أقول مثل أبي : شُلت يميني اذا نسيتك يا بغداد / ص195/
كانت الجدة رحمة ( الصفة المريمية ) هي الذاكرة النابضة بمحبة المكان والفناء فيه ، ولم تغب عنه ، لان زينة وريثتها اليقظة ، والمتحولة بطريقة غير متوقفة ، عندما انجذبت بقوة الى مهيمن الأخ بالرضاعة وعشقته ، وتمنت الزواج منه حتى ولو على طريقة المتعة ، وهو احد مقاتلي جيش المهدي . هذا وجه آخر للاستبدال الحاصل بشخصية زينة / زين واعتقد بأنه بحاجة لقراءة موسعة ، لأنه يمثل أنموذجا متعدد الهويات / متنوع الأصول ، لم يستطع مقاومة المرويات التاريخية التي كان راويها شهرزاد معاصرة ، ذات تأثير كبير على شخصية الحفيدة الأمريكية . ويبدو واضحاً عبر قراءة الرواية بأن انعام كرست الموروث الثقافي والاجتماعي للجد والجدة . واختارت مساحة واسعة للجدة رحمة في اضاءة تفاصيل دقيقة كشفت لنا تاريخ عائلة مشترك ، ظل فاعلاً وحاضراً . يحقق " الاستبدال " بطيئاً وهادئاً وهيمنت الوطن والاصول المبكرة في تحولات السرد ، المحكوم بصوت الماضي الحي / الغني / تمثيلاً له عبر الجدة رحمة . الجد / العقيد الركن المتقاعد يوسف فتوحي الساعور ، له مجال سريع في السرد ومؤثر في تحديد القراءة والتلقي ، وتحديد ما أفضى إليه السرد من تحولات جوهرية واتضح هذا من خلال الحضور المتكرر للجد وبدلته العسكرية وما كشفت عنه العلامات من دلالات غنية ، حسمت الموقف الخاص بزين / زينة ، بهدوء وخطاب مرن وشفاف .
البدلة العسكرية دلالة على زمن الجماعات العسكرية المنضبطة والمندمجة مهنياً ، والملتزمة بأصول النظام . وتكرر الإشارة لها تأثير ، خصوصاً تنظيف نجومها وتلميعها وكأنه بانتظار حلم قريب ، وأيضا إنقاذ الجيش مما تراكم عليه . وارتداء زين / زينة بدلة يوسف الساعور ينطوي على قبول له ولتاريخه ، حتى العسكري ، وبذلك تماثلت معه على الرغم من تباين النوع ، اعني التماهي مع روح الجماعة العسكرية ، والحلول الثقافي فيها . وهنا تحقق الاستبدال الأخر .
ستظل حركة الهويات خاضعة لسيرورة ، وحضور الهوية الأولى متميز بوضوح تام ، بذلت أنعام كجة جي جهداً ، من خلال شذرات سردها على التلميح لذلك ، عبر مرويات قديمة / جديدة ، تمثيل للجماعات وبوصفها قرابات متخيلة ومستعارة ، اندمجت كلها ، بعد عقود وستظل ـ هذه المرويات ـ فاعلاً ثقافياً ، كشفت عنه السرديات وتحديداً التحولات في الروح الأخلاقية ، والانعطاف نحو الاختلاط المحفز والمثير جسدياً ( مسكين حبيبي الأمريكي ، لن يفلح ، مهما فعل في مجاراة ذلك العراقي السرسري الذي حاذاني ، قرب سوق الثلاثاء ، وحك الصدأ عن أنوثتي) ص/ 188/
كان تأثير الجدة مثيراً لها وهي تستمع لها : ( يعني كانت ضرورية شغلتك تلك الماسخة في هذا المكان) ص 75//
للمسموع تأثير وللمرئي دور أيضا ( أطلقت صرخة عفوية ، عندما رأت في الأفق ملوية سامراء . وتماسكت في مواجهتها /
المكان / العراق أو البيت وحديقته وذاكرته ، منح البساطة طاقة رمزية ، ونشطت العلامات ، وانفتحت أمام القراءة وحدة السرديات غير تقليدية . في البداية ختام كل شيء . والصورة هي الفاعل / الحاضر ( دمعت عيناها وأنا أمدُّ يدي لها بالثمرتين الصفراويين اللتين قطفتهما من حديقة البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه . أخذت النوميتين بكلتا يديها وتنشقتهما بعمق وكأنها تشمُّ مسبحة أبيها وحليب أمها وعمرها الماضي . حياة مغدورة تكورت . في ليمونتين ص/10 / كتبت الحفيدة الأمريكية وأية دخولها للعراق مع قوات الاحتلال ، ولم تسمح للكاتبة القرينة لها أن تزيّف ما عرفته ، وما الذي حصل لها ؟ فالمكان المتنوع يشف عن شعرية بالمقدار الذي استطاعت فيه الرؤية بصفاء ( ليس الألم هو البطل ، بل الإذلال ) لم يكن الوضع في الموصل أفضل ... أهذه هي المدينة التي يرن عند ذكر اسمها ... مدينة أجدادي ص150//