ضوء الشمس يتخلل أوراق الأشجار ويستقر ناعماً على طول شارع لارامبلا في برشلونة. أسير بضع دقائق ليبتعد نصب كولومبس خلف ظهري ويضيع بين الاشجار والمارة. أنظر الى جهة اليمين فتطل المظلات الصغيرة التي شكلها الرسام خوان ميرو بطريقة جميلة على واجهة أحدى البنايات القديمة لتشكل إضافة جمالية فريدة للشارع، عندها أحسست كيف يمكن للفن أن يتخطى حدود المألوف ليكون بين أيدي الناس وأمام عيونهم، قبل أن أدلف الى اليسار في شارع فرعي صغير وأجلس على ناصية مطعم بسيط يقدم السمك. طلبت طبقاً من السلمون المدخن مع كأس كبير من شراب السنغريا المنعش الذي تبدو قطع الفواكة الصغيرة التي تتحرك بداخله مثل لوحة شفافة من الموزائيك. حين عرف الشاب الذي يقدم الطعام بأني لست اسبانياً غيَّر لغته الاسبانية التي بدأ يحدثتني بها وسألني بالانجليزية (هل يعجبك غاودي ؟) وهو ينظر الى الكتاب الصغير الذي وضعته على الطاولة وفيه أعمال المعماري الأسطوري غاودي. أجبته (بالتأكيد ومن لا يحب هذا المبدع العظيم)، عندها قرَّب رأسه مني قليلاً وأشار الى البناية القديمة المرتفعة التي يقع تحتها المطعم الصغير وقال (هنا توفي غاودي، قبل مئة سنة تقريباً حين كانت هذه البناية مستشفى). اذن هذا الذي كان يسمى مستشفى سانت كرو الذي ذكر في الكتب التي تتعلق بغاودي، نهضت بعد تناول الطعام ووقفت أتأمل البناية من كل جوانبها وأنا أفكر بهذا الفنان العظيم وأستعيد أعماله في ذهني من جديد.
قبل ذلك كنت قد قضيت أياماً أتنقل بين البنايات الفريدة التي صممها غاودي (1852- 1926) ابتدأتها في كازا ميلا وانتهيت بحديقة أو بارك غويل الذي صممه بغاية الغرابة والجمال، مروراً بأعمال أخرى من ضمنها كنيسة العائلة المقدسة التي مازال العمل جارياً فيها حتى هذه اللحظة وهي تطل مثل عملاق يحرس المدينة. تميزت جميع أعمال غاودي المعمارية بالموزائيك الذي غلف به كل جدران بناياته حتى باتت وكأنها كائنات أسطورية كبيرة وملونة تنتصب وسط المدينة في وضح النهار. تأثر غاودي بالعمارة القوطية وكان جزءا مهماً من حداثة كاتالونيا ومؤثراً كبيراً عليها، وإضافة الى مسحة الطبيعة ومفرداتها التي تظهر في أعماله فأن استخدامة للموزائيك والفسيفساء بشكل فريد وغير مألوف جعله واحداً من أهم فناني تيار ( اليوغندستيل) حيث استخدم في تكوين بناياته السحرية تفاصيل ومفردات ومواد لم تخطر على بال أحد، مثل الخزف والسيراميك والزجاج الملون والقضبان الحديدية المتداخلة وكذلك أنواع عديدة من الخشب. لقد فاجيء غاودي معاصريه وهو يحطم القطع الخزفية ويُدخل أجزائها المتكسرة ضمن تكويناته وتصاميمه لتصبح جزءً من البناء .
مع الزمن تغيَّر كل شيء في مدينة برشلونة لتقترب أكثر فأكثر من عالم غاودي حيث أخذت الفسيفساء تتمدد على تفاصيل المدينة مثل صنبور ماء فُتح على عشب حديقة يابس ليعيد له الحياة، لهذا نرى تأثيره واضحاً في كل شيء، البنايات والشوارع والواجهات والأرصفة والمتنزهات وأيضاً الأرائك التي صنعت من الموزائيك وتوزعت في الحدائق العامة، حتى طاولات المطاعم لا تخلو من تأثيره وتأثير أعماله. تمشي في المدينة فتشعر بأنك تتنفس هواء غاودي، تسير معه وتحاكي خطواته وتفاصيل عمله الذي يأسرك وينعش مخيلتك.
تفرغ غاودي لعمله طول حياته وكأنه يعيش معه في توحد غريب، وفي سنواته الأخيرة اعتزل الناس وعاش في كنيسة العائلة المقدسة التي كان منشغلاً بإنشائها، هي التي تعتبر أهم عمل قدمه في حياته. وفي هذه الفترة لم يكن يهتم بمظهره جيداً وكان بعض الناس يتصورونه متسولاً، حتى جاءت لحظة عبوره أحد شوارع برشلونه وهو شارد الذهن فاصطدم به ترام وأسقطه أرضاً وأغمى عليه، وبسبب هيئته الرثة وعدم وجود أوراق تثبت شخصيته لم يهتم له الناس كثيراً ولم يسعفوه بسرعة ظناً منهم أنه أحد صعاليك المدينة، مضى وقت قبل أن ينقل الى المستشفى لتلقى بعض الاسعافات، وفي اليوم التالي عرفوا بأن هذا الرجل الغامض هو العبقري أنتوني غاودي لكنهم مع الأسف لم يستطيعوأ أن ينقذوا حياته، فمات هنا في نفس هذا المستشفى الذي أقف أمامه الآن وأنا أستعيد حياة مبدع استثنائي غيَّر شكل المدينة كما غيَّر فهمنا للعمارة الى الأبد.