TOP

جريدة المدى > عام > صيف الانطباعيين في الكتابة

صيف الانطباعيين في الكتابة

نشر في: 15 أغسطس, 2015: 09:01 م

 ربما يكون السبب، ان فرجينيا وولف، مثالنا، في وسط ثقافي انجليزي وهي ليست بعيدة عن مدارس الفن الفرنسية والهولندية وشخوصها البارزين. لكن هذه الحجة لا تسعفنا كثيرا في تسبيب عدم تاثر الادب ومسايرته في العراق لفن الرسم.  لاننا في العراق لا نجهل

 ربما يكون السبب، ان فرجينيا وولف، مثالنا، في وسط ثقافي انجليزي وهي ليست بعيدة عن مدارس الفن الفرنسية والهولندية وشخوصها البارزين. لكن هذه الحجة لا تسعفنا كثيرا في تسبيب عدم تاثر الادب ومسايرته في العراق لفن الرسم.  لاننا في العراق لا نجهل المدارس الفنية ونعرف عنها الكثير، اكاديميا وثقافيا. وبعض من كتابنا كانوا في اوربا وامريكا بعد انتقال الحداثة اليها من باريس، واقطار اوربا الاخرى.

 

يمكن ان اجد السبب في: ان الادب الجديد في العراق هيمنت عليه الاجواء الايديولوجية للاحزاب الوطنية وقد وقع مباشرة تحت تاثيرها ومن بعد تحت احكام وقيم الواقعية. والواقعية في الادب ليست رحبة كل الرحابة التي يحتاج لها الفنانون الجدد، هي لم تكن طيعة الحافات ، كان الفعل فيها للوصف والمحاكاة والمنهجية الايديولوجية والتفكير في ارضاء الخارج المتبني لها والمهيمن على عموم الوسط الثقافي في اجواء التحرر والنضال الوطني.. فحتى نصب الحرية فيه قضبان وحصان جامح وبطل يقوى على قضبان السجن في طريق التحرر. هو يسحب القضبان إلى الجانبين حتى تتسع الفجوة... وهكذا! وجدارية فائق حسن هي أيضاً، على فنيتها العالية، وقعت تحت هيمنة المحاكاة وهي، مع فارق المستوى، تتناسب وكتابات ادمون صبري وذي النون أيوب وسواهما.
هنا يمكن ان نقول: ان الواقعية هي السائدة اما الانطباعية فلا نعدم وجودها ولكننا نعدم اهميتها وتاثيرها..
ساترك مناقشة هذه المسالة الصعبة للمعنيين بها اكثر مني لاكمل ملاحظاتي عن المشاهد الانطباعية في قصص فرجينيا وولف لتكون مثالا حيا لما اريد الوصول اليه.
في كتابها "لحظات وجود" Moments of Being تكتب في تخطيط للماضي Sketch of the past متتبعة تطور حساسيتها الفنية، منذ طفولتها، تقول: "لو كنت رساما لرسمت هذه الانطباعات الاولى بالاصفر الفاتح، الفضي والاخضر. وسيكون هناك الاصفر الشاحب المطفأ والبحر الاخضر الفضي حيث زهور العواطف. ساعمل صورة كروية، شبه شفافه ساضع اشكالا منحنية، اظهر من خلالها الضوء اعطي ملامح واضحة. كل شيء سيكون كبيرا ومعتما وما يُرى في الوقت نفسه يُسْمَع.. الاصوات لا تتميز عن المرئيات...
وهكذا نجد البدايات واضحة وعبارة "من خلالها الضوء" تخبرنا بالكثير. الضوء هو روح الرسم الانطباعي والحقيقة الواقعية Reality بالنسبة للانطباعي تصبح رؤيا فضاء نتلقاها بصورة احاسيس من الضوء واللون.
من يقرا روايات وولف يرَها ترسم مشاهد بصرية تؤكد القربى بين فنها الروائي وفن الرسام. كاتبةً، كانت تعمل بوعي يتنامى من خلال لغة تستقطب في اللحظة ادراكات مماثلة لتلك التي للرسام.
يقول عنها فريدمان: انها تتصور تصميم رواياتها في العشرينات بصيغ مناظرة للرسم، بخاصة الرسم الانطباعي وما بعد الانطباعي. "رسومها" اضاءات بصرية، ادراكات فنية للحظة.
معنى هذا ان صورها "المكتوبة"، "اللغوية"، تصبح اشكال وعي تتواصل مع تلك المشابهة لها على خامة الرسام.
Feedman- the Relieal Novel, p. 202
"الابحار بعيدا" The Voyage out يمكن ان تمثل عموم اسلوبها الروائي. هي تسعى مثل أي فنان لالتقاط الاحاسيس مما ترى، من الحياة وهي تمر، تماما كما يفعل الانطباعي حين يرسم المشاهد الزائلة وكما يفعل الشاعر وهو يخسر الجمال أو حين يحاول ان يستبقيه. الانغمار في الحياة الثقافية الفنية والادبية، غير النظر من بعد وغير اللاقطة الحسية ثم الكتابة عن بُعْد. هنا الكاتب فنان والكاتب شاعر ومفكر. ليس كل ما يكتب ادبا وليس كل يرصف رواية أو شعرا. الكتابة الحقيقية نافذة لعالم وراءها.
يرى جاك سيتيورت ان ما في لوحة "سمفونية بالابيض" يمكن ان نجده عند بطلتها كاترين في "ليل ونهار" وما في لوحة رينوار "الارجوحة" the Swing نجد مشابها له في "تمثال نصفي لامرأة في ضوء الشمس".
Woman's Torso in Sunlight
نرى اهتزازات اشعة الشمس والظل ينصبان على اجساد ساكنة ومتحركة. وهذا ما يرد في "حجرة يعقوب" للكاتبة: "بدت شبه شفافة، شاحبة، فاتنة وهي بين اوراق العنب والعناقيد الصفر والارجوانية. الضوء يسبح في جزائر ملونة..".
اليس هذا هو صيف الانطباعيين؟ وانسجام الألوان في لوحاتهم؟ هي لا تبتعد عن رينوار، لا تبتعد عن الانطباعيين وهي تصف المشاهد الطبيعية على البحر أو اليابسة. يقول سيتوارت في " Kew Garden : يتحكم في الشخوص الضوء والظل حتى يصبحوا اثيريين ثم يتضاءلون إلى بقع لونية.
Journal of Modern Lileralional
Vol. 9 Number 2 
هذا مثال لما اردنا الكلام عنه، والاشارة لعدم التكامل الثقافي. يتحدث بعض من الكتاب والشعراء العراقيين عن الرسم والفنون، وبعض الفنانين عن الشعر والرواية لكن كلاً يعمل بمعزل. الا ربما تناقل الموضوعات...
فضلا عن فيرجينيا وولف ورواياتها الامواج، المنار، الابحار بعيدا، حجرة يعقوب، نجد هذا التاثير المتبادل عند جرترود شتاين التي ترجمنا كتابها عن بيكاسو إلى العربية وصدر قبل عقدين عن دار المامون. ونجده عند همنغوي الامريكي كما عند ايلوار الفرنسي. ذاك روائي وهذا شاعر كتب جملة قصائد عن فنانين ولوحاتهم. وكان للرمزية اثر واضح في الأدب الغربي المعاصر وكان للتكعيبية اثر..
الادب والفن معا يتطوران ومعا يقدمان منظوراً للحياة ويؤثر الرسم في الادب والادب في الرسم.
في 1860 كتب اميل زولا عن مونيه: "معه يكون الماء حيا، عميقا وشديد الواقعية. هو يتقاطر على الزوارق فقاعاتٍ خضراً تقاطعها بروق فضية. ينتشر متقدما من بحيرات زرق سرعان ما يبعثرها النسيم.. ان فيه نقاطا معتمة وشفافة lambent تضيئها اشعة منكسرة..
وهذا ما كتبته فرجينيا وولف في غرفة يعقوب (هذه الرواية مترجمة إلى العربية وكذا الفنار Lighthouse والامواج):
"جزائر سيلي تنقلب شبه زرقاء ثم زرقاء ارجوانية والبحر اخضر محمر الضوء. كما تركناها رمادية وسرعان ما ازرقت، حوصرت فصارت شريطا يتلاشى. لكن حين وضع يعقوب قميصه على راسه كانت ارضية الموج زرقاء وبيضاء والحافات الصلبة تنساب. وبين حين وحين تظهر علامة واسعة ارجوانية مثل كدمة مزرقة أو تطفو مساحة من زبرجد منقطة بالاصفر...".
وبهذا يتضح لنا أكثر سبب آخر لغياب الظاهرة في كتابات العراقيين ذوي الاهتمام بالفن وذوي التماس بالثقافة الغربية. ذلك انهم هناك على الفة بالبيئات البحرية والبحيرات أكثر من أولاء، فضلا عن التركيبة الثقافية.
نحن هنا من لم يكن جوار النهر وهو نهر محدود السعة والايحاءات، فهو لا يرى بحرا ولا يأنس بالنظر إلى بحيرة وتأملها. ولا يستطيع الفنان- كاتبا الا ان يستذكر أو يقرأ عن البحر . الافتقار للبيئة المائية والانعكاسات واضح. واذا وُجِدَتْ فحدودها ضيقة.
لكن الانطباعيين مولعون بدراسة الانعكاسات على الماء الجاري، المتدفق، الامواج ونشاطاتها. كان الاهتمام بلعب أو حركة الانعكاسات والتلونات المدخل الفني للرؤية، كما للتفكير والتميز بما نسميه الخصوصية الانطباعية.
اوردنا امثلة من روائية واحدة. هناك روايات كثيرة لآخرين من روائيي المرحلة، كتبوا مثل ذلك بتلقائية، من غير تصنع، ولكن بحاجة تعبيرية وايحاءات واستيقاظ احاسيس.
ما حصل لروادنا الرسامين، كانت الواقعية المدعمة بالارضاء الايديولجي، هي السائدة وكان الرسامون، اذا افترضنا ان لهم قناعات فكرية بذلك، يعلمون ان الايديولوجية، اليسارية بخاصة، شرط تقدمهم والاهتمام بهم. كانت تلك صفة الثقافة العامة كما هي صفة وطنية. وحتى اللبراليون منهم، واغلبهم، ان لم يكونوا في الحقيقة جميعا. كانوا يخضعون للشرط الخارجي.. الرواية العراقية اذا ذاك، وهي بعض من تلك الثقافة الساندة، كانت، كما عند الرسامين، واضحة فيها حركة الشارع وملامح الناس وحالاتهم والهموم السياسية وعلى مثل ذلك يتأتى التقويم والاشادة. ويكاد يكون ذلك طابعا عاما. اما الفنانون انفسهم، المثقفون جيدا منهم، فاهتمامهم كان بمهارة الأداء الفني، أي بالعمل الفني ويبقى المضمون مسالة يتوقفون عندها، أو يشغلهم الفن عن المضمون إلى سواه!
لكن اولائك الاكثر حداثة والاكثر تقدما في فهم الاتجاهات الجديدة لم نجد في كتاباتهم تاثرا واضحا بالانطباعية أو ما بعد الانطباعية ولا بالرمزية الا قليلا لا يشكل انعطافة ولا اتجاها. الواقعيون كانوا هم الاكثر وضوحا. لعل الراحل المثقف شاكر حسن سعيد هو ابرز الاسماء في الثقافة الفنية في حينه والاكثر تميزا واستقلالا- لحد ما- في فنه تطبيقاً وتنظيراً. وجبرا ابراهيم جبرا الذي أفادنا بثقافته الغربية وبترجماته، كان له فهمه للفن ومستويات التعبير. أرى، فنياً، ان آراءه في الرسم ظلت بحدود الفهم الفني العام ولا نحس به ناقدا فنيا عميق النظر. المهم اننا لا نجد من الرسم شيئا في رواياته كما نجد اليوم في فرجينيا وولف، مثالا واضحا نستعين به. ظل الرسم بالنسبة له هواية وثقافة.
فرجينيا وولف كاتبة انطباعية من الدرجة الاولى وهي ترسم كتابةً ضوء الشمس على سطوح البحر. وصفها لمشهد في امريكا الجنوبية يصلح لان يكون خاتمة مقنعة لكلامنا.
"كل زوايا الساحل، تمتلئ بالماء ناعما، ويتفجر مثل كشكشة بيضاء. وهنا وهناك سفن تنطلق بحزم من الزرقة. البحر كان مبقّعاً بقطع ارجوانية وخضر وهناك في البحر هناك خط يتلامع فضيا حتى يمس السماء...".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram