ينجرف بعضنا، مع فورة الاحداث والسخونة المرتفعة للمشهدين السياسي والاجتماعي، في موجة استعارة فجة لشعارات ورموز وقضايا لا تعكس الطابع العراقي لاحتجاجات باتت تقترب من النضج بشكل سريع. هذه الاستعارة غير الواعية تسببت، للاسف، بالتشويش على شعارات ساحات التحرير والمطالب الحقيقية التي تم رفعها خلال الاسابيع الاخيرة.
لقد لعبت النخبة العراقية، خلال العقد الاخير، دوراً محوريا في بلورة وانضاج الاحتجاج الشعبي، ووضعه على السكة الصحيحة. هذه الحقيقة لا يمكن انكارها بالمرة، كما لا يمكن ايضا انكار الدور السلبي الذي لعبته النخبة في تشتيت الصف وخسارة الشارع، واطفاء جذوة حماسة الجمهور.
ان استعارة الشعارات بهذا الشكل الذي نشاهده ونسمعه مؤخرا، تكشف عن مأزق النخبة، التي تتصدر واجهة الاحتجاج، في التواصل المباشر مع ساحات التحرير، كما يعكس في الوقت ذاته "كسلا" في صناعة الشعار الذي عادة ما يعبر عن وضوح الرؤية وامكانية استشراف التحديات التي قد تواجه الجمهور.
خلال الاسابيع الماضية، لوحظت حالة "اغتراب" شعاراتي، تمثلت باستعارة هتافات واساليب احتجاج وصلت حد الاستنساح لتجربة شباب تونس ومصر الذين عبروا بطريقتهم العفوية عن حاجاتهم من خلال شعارات ورموز تحولت الى ايقونة للثورة والتغيير.
منذ تظاهرات شباط 2011 ونحن نواصل استعارة لغة واساليب الاحتجاج لثورتي مصر وتونس، حد ان البعض اخذ يستخدم تسميات كـ"ميدان التحرير"، و "شباب يناير"، للاشارة الى "ساحة التحرير"، و"شباب شباط" المألوفتين عراقيا.
لم يقف الاستنساخ عند هذا الحد، بل تعداه الى افتراض قضايا تشبه تلك التي خاضها المصريون. فاصبحنا نتحدث عن "دولة عميقة"، وضرورة مواجهة مخططات "الفلول"، وخطورة "البلطجية"، ورفع شعار "التفويض"، والدعوة لانقلاب عسكري.
على الجانب الآخر، استعار بعض المتظاهرين شعارات ورموز لها حضورها في الشارع الايراني رغم دلالاتها الدينية المحترمة لدى الجميع. فبالغ هؤلاء بارتداء "الجفية" و "العصّابات الملونة" والمعروفة بانها ايقونات اشتهرت باستخدامها قوات الباسيج والحرس الثوري. استعار هؤلاء، بغير وعي، قداسة اسم "الحشد" الذي تصدى لابشع هجمة بربرية واجهها العراق في تاريخه المعاصر، وانزلوه الى ارصفة وساحات تتصارع فيها المصالح والارادات السياسية.
وعلى الرغم من حقيقية واحقية الاهداف التي خرج من اجلها الجميع، مدنيون واسلاميون، كانهاء المحاصصة ومناهضة الفساد، وتحسين الخدمات، لكنهم يخطئون عندما قرروا التخلي عن الرصيد المعنوي لاحتجاجهم لجهات وساحات اخرى.
ظهر ذلك جليا في رفع شعارات تعكس اوهاماً غير حقيقية على ارض الواقع، كالتي تفترض وجود صراع بين الاسلامي والعلماني، او بين معسكرين متخاصمين احدهما اميركي واخر ايراني.
ما يثير الانتباه ويدعو للتأمل ان هذه الاستعارة الرمزية اخذت بالتوسع بشكل سريع، حتى غطت على الوجه العراقي لاحتجاجات البصرة وميسان والحلة وذي قار وبغداد. ولم يعد المراقب الاجنبي يميز ما اذا كان امام تظاهرة في طهران ام احتجاج في قلب القاهرة.
يغفل بعض المتظاهرين ان الاحتجاج بحد ذاته قيمة حضارية لاية امة واي مجتمع، لانه يمثل دليلا ملموسا على حيوية الشعوب وتفاعلها واصرارها على صناعة مصيرها بيدها وبصوتها بعيدا عن وصاية الآخرين. لا يلتفت البعض الى أهمية ان يحمل الشعار لونا محلياً غير مصطنع وغير مستعار، لان الشعار يمثل هوية اي حركة تغييرية. الشعار هو "لوغو" اي حركة ومن دونها لن يكون لها هوية تميزها عن غيرها وتلخص اهدافها. لن تنجح اية حركة بتحقيق اهدافها اذا ما ارتدت اقنعة مستعارة ورددت شعارات مستوردة.
استنساخ ما لا يستنسخ
[post-views]
نشر في: 19 أغسطس, 2015: 09:01 م