ركبت القطار الذاهب الى بلجيكا، قاصداً مدينة خينت التاريخية القديمة ذات الأجواء الممتعة والمقاهي الصيفية الجميلة. كان هدف زيارتي الرئيسي هو رؤية عمل فني واحد لا غير. قطعت كل هذه المسافة لمشاهدة واحدة من أهم القطع الفنية على مرّ التاريخ، كنت قد أجلت ذلك مراراً، وها قد جاء الوقت المناسب هذا الأسبوع للقيام بهذه الزيارة المهمة.
وقفت برهة أمام كاتدرائية سانت بافو الشاهقة التي بَدَتْ وكأنها تناطح سحاب المدينة وهي تخترق خيوط الشمس المائلة. دخلت الى الكاتدرائية باحثاً عن الكنز الذي جئت لرؤيته وأقصد عمل (الحمل المقدس) للرسام العظيم يان فان آيك (1390-1441)، مشيت قليلاً في الداخل فداهمتني لوحة عملاقة للرسام الفذ روبنز، تأملتها بسرعة وأجَّلت رؤيتها ليوم غد، سرت الى الداخل فوقع نظري على مجموعة من الناس يزدحمون قرب إحدى القاعات، اقتربت منهم واذا بغرفة زجاجية صغيرة يجلس بداخلها رجل يقطع تذاكر وأمامه بورد صغير مكتوب عليه (هنا تذاكر الدخول لرؤية الحمل لمقدس)، أذن عليَّ أن أقطع تذكرة لمشاهدة هذا العمل فقط! استدرت ضاحكاً صوب لوحة روبنز التي تركتها خلفي وأنا اتساءل، اذا كانت لوحات عظيمة لروبنز وغيره من العباقرة يشاهدها الناس هنا مجاناً فكيف سيكون العمل الذي تُدفع من أجله ثمن تذكرة؟ قطعت التذكرة ودخلت، لكني بقيت خلف مجموعة من الناس الذين سبقوني في الدخول منتظراً خروج بعضهم لتتسنى لي رؤية هذه الأعجوبة بوضوح ورويّة.
مرّ وقت قصير حتى أصبحت أمام عمل فني فريد معلق على جدار كبير ومرتفع، عمل فني يتكون من اثنتي عشرة قطعة مرتبطة ببعضها على شكل (رافدة) والرافدة هي قطعة أو مجموعة من القطع الفنية المرسومة على الخشب وتحتوي على أعمال دينية وتوضع عادة خلف المذبح. رسم فان آيك في هذا العمل أكثر من مئتي شخصية يتوسطها الرب بثياب مزخرفة جالساً على عرش كبير ممسكاً بصولجان. وعلى الجانبين يظهر آدم وحواء وفي الجزء الاسفل تظهر حشود من الناس في حالة ترقب وانتظار وهم ينظرون الى الحمل المقدس الذي أخذ مكانه في عمق اللوحة. المعجزة في هذا العمل هو كيف يمكن لفنان ما أن يستعمل الألوان الزيتية بهذه التقنية والتأثير والقوة والمعالجة؟ لكن ربما سيتبدد جزء من هذه الدهشة حين نعرف أن فان آيك هو الذي ابتكرالرسم الزيتي وهو أول من بدأ به وطوره وكان دوره كبيراً ليكون الزيت مادة المستقبل التي سترسم بها كل اللوحات اللاحقة حتى يومنا هذا.
لقد رسم فان آيك هذا العمل العملاق على اثني عشر لوحاً من خشب البلوط ، رسمها بتقنية رائعة حيث كان يضع طبقات اللون الخفيفة فوق بعضها بصبر ودراية، ليخرج لنا بهذه الشفافية وهذا التماسك وهذا التأثير الساحر. قضيت ساعتين مع هذه اللوحة أو اللوحات وأنا أعيش وسط أجوائها وأتخيل الفرشاة وهي تسير على وجوه الشخصيات وطيات الملابس وتيجان الذهب التي تلتمع فوقها أحجار شفافة وملونة. كيف يمكن لرسام أن يسيطر على هكذا جموع من الناس ويصمم حركتها في عمل فني واحد وكأنه يخرج فيلماً تاريخياً؟ هذا ما فعله الرسام الهولندي فان آيك الذي يعتبر من مؤسسي عصر النهضة المبكر إضافة الى أسلوبه في الرسم الذي أثر على أجيال عديدة من الفنانين ولقرون طويلة.
لقد تعرَّض هذا العمل الفني الخالد الى السرقة من قبل الألمان اثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1940، وتم استرجاعه بعد خمس سنوات وخمسة اشهر بفضل جهود فريق متخصص بإعادة الأعمال الفنية ، وكانت سعادة الناس والمدينة لا توصف وقتها، مثل سعادتي الآن وأنا أجوب طرقات مدينة خينت باحثاً عن مقهى مناسبة بعد أن شاهدت هذا الأثر التاريخي النادر.
الذهاب الى بلجيكا لرؤية لوحة واحدة
[post-views]
نشر في: 21 أغسطس, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...