لم أتشكك كثيراً، في كل ما كتبتُ حينها، في صحة ما حدث عام 2003 من تغيير، واعتبرته خطوة أكثر جذرية من كلِّ ما حدث في تاريخ العراق. فهناك حُطمت القاعدةُ الاسمنتيةُ لنظام الخلافة الذي تواصل بتواترٍ دام أربعة عشر قرناً. والتدخل الأمريكي المليء بالأخطاء وبالنوايا المريبة ربما، والذي خالف كلَّ عرف سياسي، كان الوسيلة الوحيدة الممكنة. ورب ضارة نافعة. ثم وثب "الاسلام السياسي" واحتل الفراغ، وتسلم مفاتيح السلطة من الأمريكان/ الحلفاء. وصار يُنشد مثل أي عسكري ثوري بانتصاراته على صدام حسين. حتى أنه أنشد انتصاراته فيما بعد على الأمريكان/ الأعداء، يوم قرروا الخروج. "الاسلام السياسي" صار يسعى لفقدان حيائه، منذ تخلى عن "إسلامه". ولك أن تتخيل أي مقدار من الحياء قد فُقد على مدى أربعة عشر قرناً!
ما حدث في التاسع من آب في العراق هو الخطوةُ الثانية التي عَبّد شارعَها الانترنيت هذه المرة، بعد أن عبّد الأمريكان شارعَ الخطوة الأولى. والانترنيت هو المَخبأ السرّي الذي تجتمع فيه خلايا الشبيبة، والناس على مختلف أعمارهم وأجناسهم، للتشاور وإعداد الخطط. وفاعليتُه تختلف عن فاعلية مخابئ الانترنيت التي حصلت مع شبيبة تونس ومصر وليبيا وسوريا، في العالم العربي. فالعراقيون لم يخرجوا هذه المرة على دكتاتور معزز بترسانة سلطته (كما حدث في تونس وليبيا)، ولا على حزب سرق السلطة بفعل خبرة سياسية تاريخية عتيدة، كما حدث في مصر وسوريا. ولكنهم يخرجون على "إسلام سياسي" عراقي، قشري، لا قاعدة له على الأرض العراقية، ومرفوض من قبل مرجعيات روحية مؤثرة. جاء إلى السلطة فوق دبابة أمريكية، بالغة الغباء السياسي/ أو النوايا الشيطانية المبيتة. وهو "إسلام سياسي" فقير الحال (حافي) من المال والخبرة، لسوء حظه، الأمر الذي دفعه إلى الانشغال غير المسبوق بنهب المال الحرام وقوت الناس الفقراء وضح النهار، والناس تعرفه عن قرب كيف كان وكيف أصبح. يعتمد جهاتٍ داعمة من خارج حدوده، في إيران أو العالم العربي. جهات لا حظوة لها عند العراقيين.
هذه الخطوة الثانية هي وليدة الديمقراطية الفتية دون شك، المليئة بالشوائب كأية ديمقراطية فتية واهنة الخبرة، التي وُضعت لبناتُها بعد زوال سلطة الدكتاتور. وسنقطع شوطاً من الزمن لن يطول ولن يكون دامياً، كالشوط الذي قُطع دامياً وطويلاً بين 03 ــــ 2015، من أجل خطوة ثالثة.
لم يعد لـ"الاسلام السياسي" في العراق اليوم إلا اعتماد القوة، عبر السلطة والمال، والسلاح. وسيعود إلى حاضنته إيران (الاسلام السياسي الذي أصبح دولة) وغير إيران. وعلى خلاف هذا "الإسلام السياسي" سيظل "إسلامُ" محمد المُبرّأُ من لوثة السياسة والسياسيين، لائذاً بالمرجعية الشيعية أو السنيّة، التي طالبت، وما تزال، بعدم تورط رجل الدين بالسياسة (أي بفصل الدين عن الدولة بمعنى آخر). وأي تدخل إيراني، وغير إيراني، بالقوة سيُعتبر لدى العراقيين اعتداءً خارجياً.
الاصلاحات اليوم تُتلى من التلفزيون على الناس واحداً تلو آخر، صادرة من أعلى سلطة في البلاد، والناس تُصغي بارتياب، وهو ارتياب ضروري. كلُّ إصلاح يُعزّزه وعدٌ بآخر أكثر جذريةً، والناس تتوقع بحذر، والحذرُ ضروري. والأملُ ممكن لأنه متعلقٌ بفضح الفساد والمفسدين، واستئصالهما. وهو فساد شابَ حلة الديمقراطية، والشوائب يمكن إزالتها، إذا ما كان الحكمُ الديمقراطي يطمع بأن يؤسَس على دستور عاقل وعادل. وأزعم أنه ممكن، وهل أملك غير الزعم؟ وإذا ما كان برلمانُ الديمقراطية يمثل الناس، وهاهم الناس يخرجون إلى الشوارع، مستنكرين، محتجين وغاضبين، وها هو غضبُهم يُحدث تأثيراً، وملامحَ تغيير. دعك عن سقوط لصٍ وهربِ لصٍّ، واختلال مواقع لصوصٍ، دون قعقعة سلاح انقلاب أو ثورة.
حين كتبتُ في "يوميات نهاية الكابوس"، قبل وخلال وبعد أيام زوال الدكتاتور، كنت متفائلاً ولكن بارتياب، ولامني على تفاؤلي كثيرون. واليوم أحتفظُ بمذاق التفاؤل ذاته، وبارتياب لا يقلّ عن أخيه السابق. وهل تصفو حياة امرئ لا حول له ولا قوة دون هذا المذاق؟
"الإسلام السياسي" يتداعى!
[post-views]
نشر في: 23 أغسطس, 2015: 09:01 م