تعامل الجميع مع الاحتجاجات المتصاعدة منذ أواخر تموز الماضي، ببرود وعدم اكتراث. الكل، سياسيا وشعبيا، رأى انها مجرد فورة من فورات القيض سرعان ما تنطفئ بعد تبويس حكومي سيجري في بغداد وباقي المحافظات. حتى عندما اريق دم الفتى "منتظر" لم يحرك ذلك سكون البعض الذي ظل يردد "انه امر دبر بليل".
بعد جمعتين غيرت الكتل السياسية نظرتها لثقل الاحتجاجات. لم تعد فورة، فكل المؤشرات تؤكد انها ثورة بحاجة لمن ينفخ في جمرها الذي طال انتظاره. الكل تصور ان الاحتجاج مجرد تسريب مزمن يعاني منه النظام السياسي، لكنهم تفجأوا بانهم يواجهون سيلا جارفا، يكبر ويتسع كلما اقترفت الطبقة السياسية حماقة الاستهانة والتقليل من أهمية هذا الغليان الشعبي.
جمعتان فرضتا على الكتل السياسية تغيير اساليب التعاطي مع التظاهرات والبحث عن أدوات جديدة تتجاوز الادوات التقليدية التي تشهرها بوجه اي "مشاكسة" يقوم بها شباب مستاؤون ومحبطون من انسداد افق المستقبل في احد اغنى بلدان العالم. لم تعد هراوة البعث، ولا شماعة "الارهاب" قادرة على اخافة شارع قام بكتم صوته طيلة الاعوام الماضية، بانتظار ان تبلور"الكتل" رؤية وطنية لدولتنا العليلة.
انعكست انقسامات القوى السياسية على طريقة تعاطيها مع الاحتجاجات ذاتها. فالقوى المحافظة واصلت مواقفها المتوجسة من مصدر اي حجر يسعى لتحريك بركة السياسة الراكدة. قوى اخرى، تمتعت بحس براغماتي مفضلة الهروب الى الامام، وركوب موجة الاحتجاج، ولعب دور "المنقذ" الذي حان وقته. كان صوت هذه القوى الاعلى حتى من المرجعية ذاتها التي دفعت حركة الاحتجاج بقوة مفاجئة، لكن العبرة فيما يدور وراء الكواليس وما تظهره فلتات اللسان!
منذ اكثر من شهر، والنخبة السياسية في حيرة من امرها وهي تبحث عن طريقة ملائمة للتعامل مع "العيال" التي كبرت، وباتت مستعدة لفتح باب الاحتمالات المجنونة على مصاريعها، فلا جنون اكثر مما تعيشه البلاد هذه الايام. وكجزء من ستراتيجية "الانحناء امام العاصفة" تعلن القوى السياسية تأييدها العلني مع شعار "اصلاح النظام" انتظارا لحدوث متغير سياسي او امني يصرف النظر عن ساحات التحرير من بغداد الى البصرة.
كانت محاولة الكتل، خلال الاسابيع الماضية، تنصب على "امتصاص" اندفاع الشارع من خلال احتواء ورقة العبادي في اروقة البرلمان الذي قدم، بدوره، ورقة غامضة وملتبسة، اختلط فيها التنفيذي والتشريعي، وعكست ارتباك الجهاز النيابي امام مطالب شارعه الذي انتخبه في 2014.
لكن الملفت للانتباه في هذا السياق، هو تحول الاصلاحات الى نوع من "حوار الطرشان". فالاصلاح الذي اطلقه حيدر العبادي لا يمثل بالضرورة الاصلاح الذي يطالب به الشارع منذ اواخر تموز الماضي. فرئيس الوزراء، رغم نواياه الطيبة، يمثل بالتالي رؤية النخبة السياسية لممكنات الاصلاح في نظام ما بعد 2003. وهنا العبادي يحاول ويسعى لاعادة ترميم المعادلة التي حكمت "العراق الجديد"، ومحاولة "تزييت" فراملها من جديد، واعادة تكييفها مع متغيرات مهمة ومتزامنة يعيشها العراق منذ نحو عام، كتهديدات داعش، والازمة المالية التي وضعت البلاد على شفى هاوية الافلاس.
ان البعد عن نبض الشارع ضيع على صانع القرار فرصة الامساك بـ"عقدة الازمة" التي يستحيل معها اعادة تجريب وصفات فنطازية لم تعد "شغالة" هذه الايام. فبدل البحث عن حلول عملية وواقعية، تنشغل الكتل، حاليا، بمحاولة استثمار الاحتجاجات لتصفية الخصوم وزجها في معارك مفتعلة بهدف تشتيتها وارهاقها وصولا لانهائها بالمرة. اخشى ما اخشاه ان تنجح هذه القوى بافراغ التظاهرات من مضمونها، مستغلة غياب التنظيم ونقص العقلانية لتيارات الشارع، وتحويلها الى مسبار تائه في فضاء مترامي الاطراف.
سنارة في مياه الغضب
[post-views]
نشر في: 23 أغسطس, 2015: 09:01 م