TOP

جريدة المدى > عام > من أروقة الأكاديمية العراقية..د. محسن غياض.. مواقف ورسالة

من أروقة الأكاديمية العراقية..د. محسن غياض.. مواقف ورسالة

نشر في: 25 أغسطس, 2015: 12:01 ص

والله إنّ في العراق لأعلاماً وقامات مرموقة في مختلف المجالات ، لو قيّض لهذا البلد الانتفاع منهم ،وتقديرهم حقّ أقدارهم ،وتهيئة المناخ المواتي لتفرغهم لعطائهم ،كما تفعل البلدان المتحضرة عادة مع أعلامها، لما آل حال البلد إلى ما آل إليه من تدهور وتراجع و

والله إنّ في العراق لأعلاماً وقامات مرموقة في مختلف المجالات ، لو قيّض لهذا البلد الانتفاع منهم ،وتقديرهم حقّ أقدارهم ،وتهيئة المناخ المواتي لتفرغهم لعطائهم ،كما تفعل البلدان المتحضرة عادة مع أعلامها، لما آل حال البلد إلى ما آل إليه من تدهور وتراجع وتخلف ،ولكنّ الواقع المرّ غير ذلك ،فقد حيل بينهم وبين مشاريعهم ،فتبعثـروا في المنافي ،أو ألجمت أصواتهم بالحاجة والتقاعد القسريّ والترهيب ،فقضى كثير منهم حسرة وألماً ومرضاً وغربة .

 

وتقديرهم لايكون بتوفير الظروف المعيشية المناسبة فحسب ،بل بترسيخ تقاليد علميّة وأخلاقية سليمة في التلقي عنهم ،لتتصل الحلقات ويكون لهم خلف وامتداد يعقبهم من بعدهم ،وهو أمر نادر الحصول في العراق –للأسف- ،فترى العالم منهم يقضي من غير خلف يتبنّى نهجه أو يطورمدرسته التي ينتمي إليها ،وهذه خسارة جسيمة نحسّ بها حين نستحضر الحالة النقيضة في بلدان عربية أخرى : يموت طه حسين ،فتستكمل نهجه سهير القلماوي وعائشة بنت الشاطئ ومحمود أمين العالم وجابر عصفور ..... ،وكذا قلْ عن العقاد وتلامذته من بعده ،والرافعيّ وسلامة موسى ومحمود محمد شاكر وعبد القادر القط .....إلخ أما في العراق فالأمر مختلف ،وأسباب الاختلاف تكمن في طبيعة السلوك النفسيّ والاجتماعيّ المعقد الذي يتبعه هؤلاء المتلقون بإزاء أساتذتهم ،حيث النسيان والجحود والاستهانة والتجاهل والتقليل والتحقير ،وما أكثر ما يتطاول الباحثون على شيوخهم بنرجسية وتضخم ذات مرضيّ مزريّ بكلّ المعايير.
مناسبة هذا الحديث الذكرى السنوية لرحيل أستاذنا د.محسن غياض ،تمرّ وما من متذكّر ،وكأنّ هذا الأستاذ والمربي الفاضل والباحث المرموق نسي منسيّ ،ولم يكن يوماً ملء المنصة في الجامعات العراقية والعربية ،ولم يكن ملء قلمه تأليفاً وتحقيقاً ،فضلاً عمّا امتاز به من شجاعة المجاهرة بكلمة الحقّ مهما كانت العواقب ،وروي ماروي عن وقفته الجسورة في الحفل التأبيني الهزيل الذي أقيم للعلامة مهدي المخزومي في كلية آداب بغداد في تسعينات القرن الماضي ،وما وجد فيه من إجحاف ونكران جميل لمكانة ذلك العالم ،على اختلاف مابين المخزومي وغياض في التوجه الفكريّ والآيديولوجيّ ،ومن تابع موقفه في التصدي لمن حاول التطاول عليه في بعض صحف في تلك الحقبة ،يعلم يقيناً أيّ جنان يطوي بين جنبيه . وأمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل.
توثقت صلتي بالراحل في مرحلة الماجستير ،وكنتُ أعرف أنّ المبدئية والالتزام والصدق مع النفس والآخرين ،و الحرص العلميّ الذي يصل إلى حدّ القسوة عنوانات رئيسة لشخصه الكريم ،ووقعت لي معه مواقف دالة على ذلك : منها أني احتجت إلى مخطوطة كتاب (من اسمه عمرو من الشعراء ) لمحمد بن داود بن الجراح ،وكان عاكفاً على إعادة تحقيقه ،ولم يكمل العمل بعدُ ولم ينشره ،فاستأذنته في الحصول على الأصل المخطوط للاستفادة منه في رسالتي ،توقعتُ الرفض أوالاعتذار – وهذا حقه فالكتاب لم ينجز ولم ينشر - ،لكني فوجئتُ به عصر اليوم نفسه يطرق باب بيتنا – فنحن من محلة واحدة - ، يتأبّط ظرفاً كبيراً فيه المخطوطة التي عليها تعليقات المستشرق كرنكو .
فتأمّل هذا الحرص العلميّ والأخلاقيّ . هذه واحدة . وثانية حين حصلتُ من المرحوم د.خليل العطية على الجزء الأول من مذكرات الجواهريّ – ونتاج الجواهريّ محظور في تسعينات القرن المنصرم لأسباب سياسية معروفة - ،بعد أن أنهيتُ قراءته تشوقت النفس إلى قراءة الجزء الثاني ،سألتُ العطية عنه ،فأبلغني أنّ نسخة مستنسخة من هذا الجزء بحوزة د.محسن ،ذهبتُ إليه واستأذنته في استعارته ،فقدّمها عن طيب خاطر مع توصيات بالحفاظ عليه ،مع ماقد يكتنف ذلك من مخاطر وبخاصة أنّ أستاذنا على غير هوى أولي السلطة ،ولكنها الثقة وحسن الظن التي منحني إياها ،ومنحني معها الإحساس بالزهو من جهة ،والامتنان له من جهة أخرى .
واتصلت سنوات الحصار العجاف ،وأستاذنا ينوء بأوجاع الجسد والروح تحت وطأة الحصار الخانق المفروض على المؤلف العراقي :الحصار الفكري ،ولقمة العيش المغموسة بالقحط ،وصعوبات النشر والحصول على المصادر الجديدة ،والمنع من السفر ،ورفض الجامعة المتعنت إحالته على التقاعد لأسباب صحية ،ولكنّ أستاذنا ثابت على سمته :لا يجامل ،ولا يداهن ،ولا يسمح لأيّ ضغط خارجيّ أو داخليّ أن ينال من كبريائه ،ألم يرفض الاستمرار في العمل في بعض الجامعات في الأردن واليمن خلال فترة الحصار ،حين وجد الظروف والشروط المتبعة مجحفة بل مذلة للأستاذ العراقيّ ،في وقت كان الآخرون يتساقطون على الدولار والمنصب والسفر والإيفاد والدعوات وسواها من صنوف الجاه الكاذب ،وماذا يريد أستاذنا غير الجاه العلميّ ،وهذا لايتحقق إلا بالبحث والتأليف والتعليم الحقيقيّ ولو كان في أقسى الظروف وأحلكها .
ويأتي موقف آخر ،إذ تتشرّف صاحبة المقال بمشاركة أستاذها في مناقشة أطروحة دكتوراه عام 1998م ،وهو أمر معتاد في العمل الأكاديميّ ،وكان يمكن أن يمضي هكذا في إطاره الروتينيّ لولا أنّ أستاذها وثقه برسالة بعثها إليها بصحبة ابنته ،عزّز في كل كلمة منها ماكان قد استقرّ في قناعتها عنه ،فازداد علوّاً على علوّ عندها .
رسالة تفوح علماً وتواضعاً ورغبة صادقة في الحثّ والتوجيه ،كيف لا والعلم عنده أولاً ،وكل شؤون الحياة ومشاكلها الأخرى خامساً وسادساً وعاشراً . وأبى كرمه إلاّ أن يرفق مع الرسالة آخر إصدار له عن المتنبيّ – وكان قد جرى الحديث عنه في المناقشة - ،فأرسل الكتيب النفيس الصادر ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة (المتنبي كأنك تراه) ممهوراً بإهدائه وتوقيعه .
أضع هذه الرسالة بين يدي القارئ وثيقة للذاكرة ،ليرى الأكاديميون الجدد أي أسلاف كبار أسسوا وبنوا هذه الصروح العلميّة في هذا البلد ،على أمل أن لا تبدد جهودهم أدراج الرياح ،أو تضيع أسماؤهم في مطاوي الغفلة والنكران.
نصّ الرسالة:
((بسم الله الرحمن الرحيم عزيزتي الدكتورة نادية غازي ،سلمها الله.لأنّ من العدل أن يثنى على المحسن تشجيعاً له على إحسانه ،فإنني أرجو قبول تحيتي وتقديري وشكري للجهود العلمية القيمة التي نهضت بها في تلك المناقشة الثرة الخصبة التي سعدتُ بمشاركتي لك فيها .والتي كشفتْ عن مستوى علمي رفيع ،ودقة في القراءة والتتبّع ،وبراعة في تشخيص مواضع الضعف ،ومحاكمتها والتنبيه عليها ،والإرشاد إلى معالجتها ،ولم يخرج بك الحماس العلميّ والغيرة على العلم عمّا يليق بالحكم الممتحن من العدل والإنصاف . وإذا كان ذلك كله قد شكّل مفاجأة سارة لي ،لبعد العهد بك ،ولعدم مواكبتي لتطورك العلميّ الخصب ،فإنه كان أيضاً مبعث سعادة لي وفخر عريض ،يدفعني أن أكرر لك التهنئة والتحية ،مع تمنياتي لك بالصحة والسعادة الشخصية ،والمستقبل العلميّ الباهر . ومن العدل أن أقرر أنّ سؤالك عن رسائل إخوان الصفاء دفعني مجدّداً إلى إعادة قراءة كتاب الدكتور جبور عبد النور عنهم ،ثم ما زادني ذلك إلاّ نفوراً منهم ،وإعراضاً عنهم ،ولكم دينكم ،ولي ديني. ولن أجد في نفسي حرجاً بحمد الله ،إذا اختتمتُ سالتي هذه إليك بقول (نُصيب):
ولولا أن يقال :صبا نصيبٌ لقلتُ بنفسي النشءُ الصغارُ
ولا صبوة إن شاء الله ،ولادعاء إلاّ باليمن والإقبال. واسلمي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. rana

    احسنتي النشر يا دكتورة جزاك الله كل خير علی الكلام الرائع كان انسان رائع واستاذ رائع الله يرحمه وينور قبره ويسكنه فسيح جناته لهفا عليك للهفة من خائف يبغي جوارك حين ليس مجير اما القبور فانهن اوانس بجوار قبرك والديار قبور عجبا لاربع اذرع في خمسة في جوفه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram