في مقدمته لكراسه الصغير، لكن العظيم "الثامن عشر من برومير.. لويس بونابرت" ينوه كارل ماركس بكاتبين كتبا حول "الحادث/ الانقلاب" نفسه الذي قام به لويس بونابرت، في باريس، عام 1852، هما الروائي الشهير والشاعر الشهير قليلاً فيكتور هوغو وكان كتابه بعنوان "نابليون الصغير" والثاني برودون وعنوان كتابه "الانقلاب".
ليس ماركس، وحده، من انتقد هوغو، بل شاعر ثوري قام بـ "انقلاب" خطير في اللغة والمفاهيم وصناعة القصيدة الاختراقية، بل قلب المناخ الثقافي والاخلاقي للمجتمع الباريسي، هو شاعر الكومونة الباريسية أرثر رامبو، عندما صاح غاضبا: سأنتف لحية فيكتور هوغو.
جوهر نقد ماركس للكاتبين الفرنسيين انصب على ما سمّاه، ساخراً، بـ "المؤرخين الموضوعيين".
"سرد موجز، ساخر، لاذع، بسط فيه (ماركس) كامل مجرى التاريخي الفرنسي وهو في ذلك لم يكن في حاجة لأن يعامل بطل الانقلاب بغير الاحتقار الذي استحقه تماماً". قال فردريك أنغلز عن كراس ماركس.
ما هي طبيعة اللحظة الآن لاستعادة ماركس؟
ثمة أكثر من انقلاب عسكري أو مدني حدث، ويحدث، في منطقتنا العربية، والعراقية الآن، وهي انقلابات لا تشبه بعضها بعضاً، فانقلاب السيسي في مصر لا يشبه انقلاب العبادي في العراق، و"عاصفة الحزم" لا تشبه "عاصفة الصحراء".
.. ولأن هذه الانقلابات قامت داخل مؤسسات الدولة، على ضوء صراعات مصالح تفوق أهداف السياسة، بيد أن المثاليات التي يقترفها الشعراء، وأعني منهم أتباع الشعر البرناسي (!) الذي يهطل علينا من أبراجهم العاجية، ليست صالحة للعمل في مثل ظروفنا التعيسة، بل الموجعة، والقتلة يقتبسون ذكاءهم الخارق، وإن كان فطرياً، والأصح: ما تنتجه غريزة الربح والخسارة في ثقافة البزنس، فتراهم ينشرون الموت في أكثر من بقعة وعاصمة ومدينة وبلدة لكي تتبدد ردة الفعل ويأخذ الحزن شكله المحلي، لأنهم جعلوا الموت وجها بشعا للوضع الإقليمي، فصارت لكل مدينة عربية أوجاع محلية، مغرقة في محليتها، لكن لون وطعم ورائحة دموع أهل حي "جميلة" في بغداد بعد التفجير الأخير، ومقتل نحو مئة من حمالي السوق ومتسوقيها، قبل أيام، هي دموع أهالي بلدة دوما المحاذية لدمشق، نفسها، إثر قصف بشار الأسد لسوقها الشعبية ومقتل أكثر من مئة سوري يتسوقون الخضار الذابلة لا مواد التفجير، وهي دموع أهالي مدينة سرت الليبية التي اختطفها الداعشيون منذ نحو شهر وهي دموع فقراء اليمن التي لا تجيد التفريق بين قصف "عاصفة الحزم" أو رصاص الحوثيين لأن القتيل اليمني الذي يسقط، أو يسقط، ميتاً لا يتذكر مصدر النيران.
ثمة نابليون صغير، أصغر من نابليون هوغو وبرودون، يشعل الحرائق في مدننا، ومثله يختفي تحت جلودنا، في انتظار الفرصة المؤاتية ليعيد التاريخ نفسه مرتين، على هواه، بخلاف بونابرت الثامن عشر من برومير، أي مأساة ومهزلة معاً، وبأقذع الألفاظ التي تليق بقادتنا ورؤسائنا وملوكنا، وحواشيهم ومستشاريهم وفقهائهم والحثالات النافذة في الأحزاب والجوامع والحسينيات والتكايا والمنابر وخطب الجمعة والسبت والأحد... وإلخ.
إنهم يحكموننا بسلطة الماضي، منذ قرون بعيدة، على وفق نصوص لم يؤكدها مصدر مستقل، والواحد منهم يرفع بيد مصحف صفين وباليد الأخرى يسرق البنك المركزي.
يرسم ماركس المشهد كالآتي:
"إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم، بأنفسهم، بل في ظروف معطاة ومنقولة لهم من الماضي. إن جميع الأجيال الغابرة تجثم، كالكابوس، على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين، فقط، في تحويل أنفسهم، والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن موجوداً من قبل، ، عند ذاك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية ، كهذه، على وجه التحديد، نراهم يلجأون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي، في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القِدَم وفي لغة مستعارة".
الثامن عشر من برومير.. القتيل لا يتذكر مصادر النيران
[post-views]
نشر في: 24 أغسطس, 2015: 09:01 م