أجمل المناسبات هي افتتاح متحف جديد يحتوي على أعمال مهمة وأيقونات فنية نادرة، وهذه المناسبات يكتمل جمالها بزيارة هذا المتحف والاطلاع عن كثب على محتوياته وكنوزه ونوادره الفنية التي جُمعت خلال سنوات طوال من هذا المكان أو ذاك لتكوّن ثروة هائلة وتتحول بعد ذلك الى متحف جميل ومهم. أقول هذه الكلمات بمناسبة افتتاح متحف جديد وكبير في هولندا هذه الأيام، أنه متحف (مور) الذي يضاف الى الأماكن التي تفخر بها الثقافة والتاريخ الهولندي. والمثير في أمر هذا المتحف هو أنه مخصص للأعمال الواقعية فقط أو الاعمال التشخيصية إن صح التعبير. وكلمة (مور) هنا هي اختصار لكلمتي مودرن ريالزم حيث أراد المسؤولون عن المتحف من هذا الاسم أن يشيروا الى الواقعية الحديثة التي اشتهرت بها هولندا أو ما تسمى في الأوساط التشكيلية بالواقعية السحرية، حيث ضمَّ المتحف بين جدرانه وقاعاته الواسعة أعمالاً واقعية رسمت خلال المئة سنة الأخيرة لتكون شاهدا على تطور رؤية الرسامين وتغير تقنياتهم وأساليبهم والطريقة التي ينظرون بها الى الواقع.
إنه أكبر متحف للأعمال الواقعية في هولندا ومن هنا يكسب أهمية خاصة ومكانة مرموقة ومؤثرة في الوسط التشكيلي هنا حيث بلد الرسم ومكان الفنانين العمالقة والأيقونات الفنية التي غيرت مجرى الفن. هذا البلد يعرف كيف يدير دفة الثقافة التشكيلية وتأثيرها ويعرف بالضبط كيف يرد وفي الوقت المناسب على ادعاءات الكثيرين حول أهمية الفن الواقعي أو الذين ذهبوا بالرسم الى أماكن غير مفهومة وابتعدوا عن ماهية الفن وصاروا يقدمون أعمالاً لا تنتمي الى الرسم بأي شكل من الأشكال وأخذوا يعرضون في صالات كثيرة أعمالاً ساذجة وشرائط فيديو ونفايات وأشكال بعيدة عما يعرفه الآخرين عن رفعة الفن وجماله وتأثيره الباهر. وإزاء هذا كله لا يكون نوع الجواب الذي تطرحه المؤسسات المعنية بالفن الحقيقي إلا كبيراً بحجم هذا المتحف ومؤثراً بهذه الطريقة ومهماً بأهمية الأعمال التي يحتويها.
ذهبت لزيارة المتحف في مدينة خورسل شرق هولندا وأنا متشوق لرؤية أعمال فنانين مفضلين لديّ أردت أن أراها من جديد بتمعن بعد أن رأيت الكثير منها في أماكن ومناسبات متباعدة. وصلت المدينة ووقفت أتأمل بناية المتحف التاريخية الجميلة المحاطة بحدائق واسعة تملأ المكان رائحة عشبها المجزوز تواً. هذه البناية من تصميم المعماري الشهير هانس فان هيسفايك وكانت تشغلها لسنوات طويلة بلدية المدينة التي تحولت الآن الى بناية أخرى وجعلت من مكانها القديم هذا متحفاً رائعاً. دخلت المتحف وتجولت بين قاعاته ووقفت أمام أعمال تعيد لي معنى الفن وتمتع بصري وتغسل عيني بسطوة جميلة أحتاجها كل يوم، هنا حيث يكون معنى الفن حقيقياً وحضوره واقعياً وليس مفترضاً. أنساب بنعومة بين جدران المتحف وصالاته المتعددة لأشاهد أعمالاً لفنانين مثل يان مانكس وشارلي توروب وبيكه كوخ وديك كيت وآخرين غيرهم الى أن ينتهي بي المطاف في صالة الفنان العظيم كارك فيلينك الذي يعتبر أعظم فنان هولندي واقعي في المئة سنة الأخيرة. هذا الرسام الذي ولد في أمستردام وتوفي فيها، كان يمد رأسه من نافذة مرسمه ليطل على متحف رايكس ميوزيام القريب وهو يحلم بأعمال ريمبرانت وفرانس هالس وباقي الأساتذة، وهو لم يتوقع أن تأخذ أعماله فيما بعد طريقها الى المتاحف العظيمة أيضاً، أتنقل بين لوحاته الساحرة وأتوقف امام لوحته الكبيرة والشهيرة ( ثوب ماتيلدا) التي رسمها لحبيبته وموديله الدائم ماتيلدا التي تقف في اللوحة بثوبها الأسطوري الطويل الذي صُمِّمَ وصنع وقتها خصيصاً ليكون جزءً من اللوحة، تتحسس ثوبها الجميل بيدها وكأنها تتهيء لأستقبال زائري لوحات الفنان الذي أحبته وخلَّدها في عشرات الأعمال المهمة، ماتيلدا التي لم تقو على الاستمرار بالحياة بدون حبيبها الفنان فانتحرت بعد وفاة فيلينك بفترة قصيرة، ذهبت وبقي ثوبها يرفف في فضاء المتحف حيث أقف الآن ، ثوبها الجميل الذي يشير الى تلك الأيام الخالدة التي منحها لنا فيلينك لتكون جزءَ من تاريخ الفن الجميل.
ثوب ماتيلدا
[post-views]
نشر في: 28 أغسطس, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...