اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في تحية معلم الإنجليزية، أستاذ حميد

في تحية معلم الإنجليزية، أستاذ حميد

نشر في: 29 أغسطس, 2015: 09:01 م

مساء أمس، فوجئت بزيارة معلمي الأول، أستاذ حميد- هكذا كانت تسمية كاملة- معلم الإنجليزية في مدرسة السَّراجي الابتدائية. زارني بعد خمسين سنة من مفارقتي إياه، سمع بأني أصبحت شاعراً وكاتباً، لعلّه صدّق ما يُنسبُ لي من المعرفة في الحياة والثقافة والسياسة ربما، بما يضيف لما ابتدأهُ معي في تلكم السنوات. حرصت على أن أجلس قبالته، لا إلى جانبه، أردت أن أشعر معه بأني ما زلت ذلك الصبيّ، الطفل الذي يحاول تعلّم لفظ الكلمات الأولى، ويجاهد لكي يبدو فاهما المفردات التي لم تكتمل معانيها بعد، ثم أنه راح يعيد عليَّ ما يتذكره عنّي آنذاك. لم يرسم أمامي صورتي بالقميص الأبيض والبنطلون الأسود، لكني تذكرت منديل الجيب الذي لا بد أن نريه للمدير حين نقف في الساحة. كذلك بدت لي صورتي بالدشداشة غير متسقة معه اللحظة تلك. كنت أخشى أن ينظر لأصابعي فيجد أن أظافري قد طالت واتسخت او لياقة قميصي وللحذاء وللدفتر الصغير الذي بيننا على الأريكة، حيث نجتمع بعد خمسين سنة، هو برأسه الاشيب ودشداشته الصيفية وأنا برأسي الذي بدا مساوقا لبياض رأسه ولون دشداشته، التي لا شك أنها كانت أنصع.
سألته عن معلم العربية الاستاذ صبري الدغمان ففاجأني بانه قتل في الحرب مع إيران، أخذوه إلى معسكرات الجيش الشعبي وهناك التهمته غول أم المعارك. لم أمهل نفسي طويلاً، إذ سرعان ما ارتسمت في رأسي صورة النشرة الحائطية التي دأب على كتابتها وخطها وتلوينها بقلمه العبقري أستاذ صبري، ثم أني رحت أستعيدُ كلمة (النور) وهو اسم النشرة تلك. كان إذا أراد أن يخط الألف واللام خطهما على هيئة شمعتين، ثم أنه يحرص على ذوبان الشمع حواليهما، ليبدو الفتيل الصغير أصفر كهربيا، ربما كان كناية عن وقوفه الطويل امام اللوح، وهو يشرح لنا ما في كتاب (لغتي) كتاب النحو من الشائك والعصي. كان أستاذ صبري يحب عبد الحليم حافظ، مغرما به، حد الذوبان بصوته، كنا نسمعه وهو يدندن في أويقات الاستراحة بما يشبه الصفير والهمس. وكان أطلق على واحدة من نشراته اسم (القناديل) لعله كان يحب أغنية حليم الشهيرة ( ضي القناديل، والشارع الطويل) صممَّ النشرة على هيئة شارع طويل، رسم على جانبيه صفين من الشموع ينتهيان بشموع صغيرة، لا تكاد تُرى. هل كان صبري يستحضر نهايته، هو الذي قفل عائدا، مع من قفل وعاد من الجزائر بعد انقلاب 68 طامعا في حياة جديدة، غير بعيد عن اهله وناسه في أبي الخصيب.
كنا نريد، أستاذ حميد وأنا أن نختصر خمسين سنة في مساء قصير واحد، ولأني بذاكرة الصبي ما زلت، فقد تركته يتحدث عن معلمين آخرين، تذكرنا المُعَلّميَن من أسرة الدغمان، أيضا (منذر وغازي)وعرّجنا بالذكر العطر على معلم التربية الاسلامية، القاسي، الصعب عبد الخالق المناصير، فارتسمت مثل خطف جناح طائر يقظ صورته، بشعره السبط الطويل، الذي كان يسرّحه إلى الخلف من منبته في جبهته حتى منتهاه عند ياقة قميصه، وحين يهمُّ بضرب أحدنا كان شعره يرتج قافلا من الخلف إلى الامام فيغطي وجه. الآن أتحسس اصابعه على خدِّ عادل محمود غضبان، طالب الصف الخامس الابتدائي، من أبناء التبعية الإيرانية، الذي ظل يُخطئ بترتيب اسماء الخلفاء الراشدين حتى ساعة تسفيرهم خارج العراق. وفي سوْرة التذكر الجميل، عرجنا بالذكر الطيب على بيت العقرب، فتذكرنا منهم المُعَلّميَن ( سلمان وعبد الغفور) ولكي لا نبدو عاجزين عن التذكر خطفت امامنا اسماء مثل، المدير الاستاذ حسن فاتح، ومعلم الحساب أستاذ عبد الزهرة مريهج. الآن اتذكر شجرة الدفلى القريبة من باب حديقة المدرسة، تلك التي كان الفرّاش أبو حبيب يستعين بها كلما طلب منه أستاذ عبد الزهرة عصا لضربنا. ولم نغفل معلم التاريخ والجغرافيا الاستاذ رشيد، فقد كان صورة أخرى، أتذكر سؤاله التقليدي ( ما واين تقع الاسماء التالية ؟)
يقول ابني الذي قام على ضيافتنا، خلال اللحظات القصيرة التي أمضيناها معا، أستاذ حميد وأنا، بانه اعتاد على زيارة الطالب لمعلمه، فكيف بمعلمك وهو يزورك، على خلاف القاعدة ؟ لم أشأ أن أجيب بشيء، لكنه، وخلال جلوسه بيننا عرف المعنى الكبير لزيارته، قلت له: كان الاستاذ حميد يقف عند باب قاعة الامتحان الوزاري، ليسألنا واحداً واحداً عن إجاباتنا عن الاسئلة، كيف وبما أجبنا عن السؤال هذا وذاك، ويقدّر درجاتنا، حتى إذا اطمأن، وهدأ روعه استشعر البهجة وطافت بين عينيه سحب السعادة، انصرف لبيته وأبنائه .
في البدء، وعند لقائي الأول به، عند مدخل بيتنا، هممت مقبّلاً يدهُ، فرفض ومنعني. كان شيء ما ينكسر في روحي، أحسست باني لم أوفّه حق جهده وإخلاصه، فلم أجد ساعة مغادرته، إلا أن أهيئ نعلهُ أمامه، فجعلته عند مقتبل أصابع قدميه، كيما ينتعله بيسر، أردت أن أشعره برفعة ما هو عليه وضآلة ما أنا فيه. أستاذ حميد، معلم الانجليزية في مدرسة السَّراجي الابتدائية، ظل يحدّث طلّابه لثلاثين سنة قبل تقاعده عن الوظيفة عن ثلاثة طلاب نابهين، يبهجني بأني كنت أحدهم .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram