(1)في خمس عشرة مقالةٍ كتبتُها ونشرتْها لي جريدة (المدى) تحت عنوان (التعليم العالي في العراق إلى أين) على امتداد سنة كاملة عن واقع هذا التعليم، وغالبيتها العظمى كانت حول سلبياته كما رأيتها، أعترف بأنني لم أكشف إلا عن (بعضٍ) من (كثيرٍ) مما يكتنف هذا ال
(1)
في خمس عشرة مقالةٍ كتبتُها ونشرتْها لي جريدة (المدى) تحت عنوان (التعليم العالي في العراق إلى أين) على امتداد سنة كاملة عن واقع هذا التعليم، وغالبيتها العظمى كانت حول سلبياته كما رأيتها، أعترف بأنني لم أكشف إلا عن (بعضٍ) من (كثيرٍ) مما يكتنف هذا التعليم من السيئات والسلبيات والفضائح والدمار، الذي أسس له، بشكل رئيس، علي الأديب في ظل المالكي، وكنّا نأمل أن يزيله الشهرستاني، فإذا بالمؤسسة في ظله ترسّخه بشكل أحبط فينا الأمل فيه. بعد هذه المقالات أجدني أسأل نفسي هذا السؤال: هل نحن في سفينة غرقى؟ فأجيب: أعتقد (نعم) ولكني آمل أن (لا)!! وما كنت لأستطيع أن أقول "ولكني آمل أن (لا)" وأنا أجده بعيد المنال، لولا عودة الوعي مؤخراً إلى الشعب الذي تحرك لأول مرة من أكثر من اثني عشر عاماً ضد الفساد والسقوط والانحرافات وهذا الواقع المتردّي الذي تعيشه مؤسسات الدولة جميعاً ومنها الكثير من مؤسسات التعليم العالي وجامعاته. وفي ظل هذا أعود لأنهي وقفاتي عند هذا التعليم بثلاث وقفات ختامية وتحت عنوان جديد هو (مستقبل التعليم العالي في العراق).
إذن، هل للحلم الميت في واقع تعليم عالٍ جديد أن يعود؟ يبدو كذلك، ولكن لا بإرادة المسؤولين الذين كتبت عنهم جل مقالاتي، بل بفعل الشعب ووعيه وحركته، وآمل بفعل الأكاديميين الذين لم يتوسخوا بالفساد والمحسوبية وبالطائفية وبدبق كراسي المناصب التي يتولى غالبيتها العظمى مَن لا يستحقونها أصلاً... فإذن نعم من الممكن للحلم أن يعود، وللسفينة أن تنجو من الغرق، حين يكافح بعض من عليها للوصول بها إلى برّ الأمان. وحين أقول هذا فإنني لا أستبشره بفعل القرارات الترقيعية والتسويفية التي اتخذها ويتخذها العبادي وبعض الوزراء، ولا بفعل دمج وزارتي التعليم العالي والعلوم والتكنولوجيا، ولا، بشكل أساس، بفعل الورقة الإصلاحية التي قدمتْها (لجنة التعليم العالي والبحث العلمي) البرلمانية، والأخيرة هي ورقة لا علاقة لها بالتعليم العالي إلا هامشياً، بل هي بالتأكيد للتسويف ولـ(قشمرة) المتظاهرين وضمنهم أساتذة الجامعات، وواضح أن من كتبها لا علاقة له بالتعليم العالي والبحث العلمي، والدليل على ذلك أننا نستطيع أن نرفع عبارة التعليم العالي منها لتنطبق في غالبيتها العظمى على أي وزارة أو مؤسسة يُراد إجراء إصلاحات ترقيعية وتسويفية فيها.
(2)
ولكن لماذا القول بالسفينة الغرقى أصلاً؟ حسناً لأننا كشفنا، في ما سبق من مقالات، عن واقع هذه السفينة اعتماداً على اطلاعنا ومعايشتنا لها، وعلى تجربتنا الطويلة الخاصة وتجارب آخرين، وعلى الاطلاع العملي وعن قرب على جامعات العالم المختلفة، وعلى القراءة والمصادر، ومن خلال المقارنة العلمية والعملية بين جامعات عراقية، ولاسيما جامعة بغداد التي تبكي على ماضيها وألقها وتاريخها المفعم بالإنجاز والعلمية من جهة، وجامعات في بعض بلدان العالم الثالث وبعض البلدان الغربية من جهة أخرى. وكاد التناول والكشف والمقارنة يشمل كل الجوانب التي شكلت موضوعات المقالات، وأهمها: أولاً مواقع الجامعات العراقية بين جامعات العالم والوطن العربي؛ وثانياً العلمية والأكاديمية؛ وثالثاً أوضاع الأستاذ الجامعي؛ ورابعاً القيادات الأكاديمية؛ وخامساً واقع الدراسات العليا والطلبة عموماً؛ وسادساً السياقات العلمية وافتقادها أو تجاوزها؛ وسابعاً الإدارة والمالية والجهاز الإداري والقيادات الإدارية؛ وثامناً التعيينات وتولّي المناصب والمسؤوليات، وتاسعاً إقامة المؤتمرات وسياقات الاشتراك في المؤتمرات العلمية في الداخل والخارج؛ وعاشراً الموقف من الإنجازات العلمية والأكاديمية والتربوية ومن الجوائز الأكاديمية والعلمية؛ وحادي عشر البعثات والرحلات البحثية والتفرغ الجامعي؛ وثاني عشر النشر العلمي. وكل ذلك مما نُسفت أصوله بمسيرة من التدمير الذي بدأ بمجزرة الأساتذة حين تخلّت الوزارة قبل أربع سنوات وعن طيب خاطر عن آلاف من علماء الجامعات العراقية وأهدتهم لجامعات العالم بإحالتهم على التقاعد، وليس انتهاءً بالمواقف السلبية المختلفة من الأستاذ الجامعي.
إذن، فقد غطيتُ بمقالاتي عهداً شهد فيه التعليم العالي والجامعات تدهوراً غير مسبوق في تاريخهما، وهو العهد الممتد من عام 2010 عام استلام المالكي الولاية الثانية وسقوط وزارة التعليم العالي ضحية قيادة لا علاقة لها بالتعليم العالي وبالعمل الجامعي وبالسياقات الأكاديمية، إلى عام 2015 أي سنة بعد استلام الشهرستاني مسؤولية هذا التعليم. وكانت نتيجة ما درسته وناقشته وعرضته من جوانب أكاديمية أنني لم أجد فيها ما هو أرفع مستوًى منها في جامعات البلدان التي تهيأ لي الدراسة أو التدريس أو العمل فيها أو الاطلاع عليها سواء المتقدمة منها مثل أمريكا وبريطانيا، أو النامية مثل الأردن والإمارات وسلطنة عمان، أو ما يُفترض أنها تتخلف عنّا بكثير مثل ليبيا.
(3)
وفي ظل هكذا أوضاع قد تبدو للكثيرين ميؤوساً منها قال ولا يزال يقول لي الكثير من الأصدقاء والزملاء والمعلّقين على مقالاتي: أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي، وفي ظنهم أن اﻷمور ستبقى على ماهي عليه إن لم تسؤْ أكثر. ولكني قلت ولا أزال أقول لهم: صحيح إلى حد كبير ما تقولون، ولكني أعتقد أن هناك، ولا بد من أن يكون هناك، أمل وإن كان ضعيفاً جداً في الإصلاح وتجاوز السوء، لكنه يحتاج في كل الأحوال إلى أن يكون هناك من يتكلم بل يصرخ به، وهذه هي صرختي أنا، وبظني هي تحتاج فقط إلى من يتعاطف معها لتؤثر. ومن المفيد أن أشير هنا إلى أنني لا أعلّق أملي على قيادات الجامعات الحاليين، ولاسيما بغداد، ولا على التعليم العالي عموماً ومسؤوليه، ولا على من ألِف دبق كراسي المناصب من الأكاديميين، بل على الأساتذة التدريسيين بشكل خاص، وهل أقول أيضاً على الشعب بشكل عام الذي لا يمكن أن يبقى مستسملاً ومغلوباً على أمره، خصوصاً وأن مرض التعليم العالي ومأساته هما من مرض الوطن ومأساته. وها هو الشعب يتحرك فعلاً، وبظني لا يمكن لأهل التعليم العالي، من الأساتذة والطلبة بشكل خاص، إلا أن يتحركوا. ولكي لا أبدو مثالياً وخيالياً يجب أن أعترف بأنني لم أكن أبالغ أبداً في تفاؤلي، بل ربما كنت أقرب إلى التشاؤم مني إلى التفاؤل، ولكنّ المهم أن الأمل كان موجوداً. وهنا استعيد مقطعاً من أوائل مقالاتي في هذا السياق، ويعود تحديداً إلى زمن اتّقاد هذا الأمل ببوادر انتهاء حقبة نوري المالكي في العراق، وحقبة علي الأديب في التعليم العالي، فقلت حينها الآتي:
سبق لي مع بدء حكومة السيد المالكي، وتحديداً بداية 2011، أن قلت الآتي، في حوار أجرته معي مجلة (الشبكة) العراقية: "لأننا معنيون بالقطاعين الأكاديمي والثقافي، أتمنى في ظل وزارة المالكي الجديدة أن تسير الأمور بأفضل مما كانت عليه، من خلال أن تسترد الأكاديمية ما فقدتْه خلال سنوات الحصار وما بعدها من سياقاتها السليمة، وأن تسترد الثقافة ولاسيما في مجال الكتاب ونشره وجهَها السليم. فهل سيفعل وزيرا التعليم العالي والثقافة ذلك؟ أتمنى هذا وإنْ لم أكن متفائلاً." وفعلاً كان عدم تفاؤلي في محله، فشهدت الوزارتان، وإلى جانبهما وزارة التربية، أكثر مراحل تمرّ بها تراجعاً خلال عقود. لكنّ هذا لم يقتل أملي تماماً، فهل لي، مع بوادر زوال الكابوس بتنحية السيد المالكي، أن أحلم بتولّي وزارة الثقافة مثقف لتبعد الطفيليين عن الثقافة وتؤسس لمسيرة ثقافية عراقية وعربية من جديد، وتنقذ الكتاب والمسرح والفنون؟ وبتولّي وزارة التربية تربوي لستعيد تربويتها وتستعيد الطالب العراقي الذي طالما عرفناه متميزاً عن أقرانه العرب؟ وبتولي وزارة التعليم العالي أكاديمي جديد تستعيد معه وزارتنا السياقات الأكاديمية التي غادرت معظمها خلال السنوات القليلة السابقة، وتنصف الأستاذ الجامعي وتعيد الكفاءات التي ضحت بها؟، وهل لي أن أمدّ حلمي ليشمل رئيساً جديداً لجامعة بغداد؟.. وهل يغفر مارتن لوثر كنغ لي استعارة مقولته: I Have a Dream أنا عندي حلم؟.. نعم أنا عندي حلم بذلك.
فإذا كان لي حلم مع بدء ولاية المالكي الثانية فأفل، وحلم مع انتهاء كابوس المالكي وقيادة التعليم العالي السابقة فأفل أيضاً، هل لي أن أحلم اليوم من جديد؟ أظن ذلك. فمع نبض الشارع وساحات التظاهر وبشكل غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث، لا يمكن للتعليم العالي والتربية والثقافة أن تبقى في استسلاميتها. ولكنْ لكي نأمل أن يأتي التغيير، لا بد من أن نعرف الواقع، بعبارة أخرى أن نعرف سلبيات التعليم العالي. وإذا كانت هذه السلبيات من الكثرة والعمق والترسخ في عظام هذه التعليم ومسؤوليه، فإننا قد سعينا إلى الكشف عما نراه ونعايشه منها. فما هي خلاصة عيوب التعليم العالي هذه وما هي سبل الخروج منها؟ هذا ما نحاول عرضه عبر وقفاتنا الثلاث وهذه هي الأولى منها، وللحديث بقية.