أعترف بأنني حزين لأنني نسيت مادة هائلة من الذكريات والاحداث التي تربطني برياض قاسم طيلة 50 عاما. أنا المعروف بالنسيان بتُّ أفسر نسياني بشعوري الدائم بانني مطرود ومطارد وان لا امل لتصحيح هذا الوضع. العراق السياسي طارد وشغوف بالطراد . نحن الطرائد، الغز
أعترف بأنني حزين لأنني نسيت مادة هائلة من الذكريات والاحداث التي تربطني برياض قاسم طيلة 50 عاما. أنا المعروف بالنسيان بتُّ أفسر نسياني بشعوري الدائم بانني مطرود ومطارد وان لا امل لتصحيح هذا الوضع. العراق السياسي طارد وشغوف بالطراد . نحن الطرائد، الغزلان ، الابرياء، سريعا ما نسقط في لحظات الصيد الجائر. ليس السياسيين عندنا وحدهم من يمارس دور الصياد بل الوضعيات السياسية المأزومة التي تقفز على رؤوسنا فجأة. أكثرية السياسيين العراقيين من الطراز الجديد يفتتحون تاريخهم بحماية أنفسهم من عدوّ ما ، وأول ما يخطر في بالهم هو ان يتحولوا الى رجال أمن . والغريب انه في الطريق الى ان يكونوا أنذالا غير قابلين للشفاء يكونوا قد حطموا عددا من العوائل البريئة.
إذن فكرت على هذا النحو: علام يشغل المرء نفسه بالبديهيات؟ علام نسجل دفقا متلاحقا من الاعتداء على حرياتنا الشخصية إذا لم نكن نمتلك القدرة على تغيير مصائرنا؟ لقد استقبلنا دائما لامعقولات السلطة بضرب من اللامبالاة وعدم التدقيق بالتفاصيل . قبل ذلك اعتدنا ان نصفع من دون ان نرد. الآباء والامهات والمعلمون ومدراء المدارس والتقدميون التموزيون والشرطة والاشقياء ، ولكل اسبابه ، علمونا الجبن والخوف وطمر ذكريات الاهانات التي ألحقت بنا في اللاشعور لم يختبره فرويد نفسه. عندما حلّ الفاشيون كنا قد اصبحنا (مكفخة) حقيقة ـ واصلين الى سن الزواج ومسؤوليات الأبوّة والانزواء في زواغير المقاهي والمشارب ، دافنين رؤوسنا في كتب الحرية التي جعلتنا حساسين واذكياء ومرضى بالكآبة .
.. وتلومونني، ضاحكين، على نسياني ، وعلى استنجادي المثير للشفقة بأصحاب الذاكرة! لمَ لمْ تصبحوا مثلي مهملين؟ نعم ، اجرؤ على لومكم ايها الشجعان ، وكما ترون ، فقد فات الاوان عليّ وعليكم ، و لن نستمتع بإنجازات الجمهورية على مستوى الحرية إلا في القبور . اضحكوا . ثمة تلازم بين ضحكي ونسياني.
آه .. بالطبع بالطبع ..نسيت الربّاط .. أرى وجه المرحوم سامي محمد وهو يعنفني ويصيح بأعلى صوته : اين الربّاط ؟ أي عمر هذا! انا ضائع وانت تضيعني!
ولكن يا سامي اعذرني أنا عجوز خرف وفي طريقي الى الالتحاق بك. انا مثل رياض قاسم المصاب بالسكري والنقرس وهشاشة العظام ومشاكل البنات والاحفاد. هو دخل التوقيف وانا هربت من الايام بطريقة ميلودرامية. منذ أن استعجلت المسرة أنت ونحن نفكر بك كحائز على جائزة.
أين وصلنا يا جماعة؟
زرت رياض قاسم في موقف خلف السدة اذن ، كان في حيوية سجين سياسي من تلك الايام ، مع انه لم يكن سياسيا ولا علاقة له بالتظاهرات . حيوية تنتقل بعدوى سنوات الستينيات الشبابية . ومن المؤكد كان رياض قاسم يضيف اليها ارتفاع الصوت والمزاح الدائم وروح الجدل. كان هو والمرحومان منعم حسن وقتيبة عبد الله مع جمهرة من الشبان يشكلون ما كان يطلق عليهم في منتصف الستينيات بالوجوديين. وحقيقة الامر لم يكونوا وجوديين إلا بالمعنى الذي يقول فيها مراهق لأبيه عاصيا أمره إنه حرّ ! الباقي ، والحقيقي حقا ، انهم كانوا يستمتعون بشبابهم ويجربون بعض مذاقات الحياة والحرية.
لم نتحدث في السياسة بل عما يجري في الخارج ، والحقيقة انني أشغلت نفسي بتخيل حضوري في نفس تلك الساحة موقوفا يستقبل صديقا . ان اتجاهي الفينومينولوجي (لو كان رياض قاسم حاضرا الآن لقص عليكم قصة (تموّت) من الضحك عما جرى لي بسبب هذه الكلمة القائمة على اعادة انتاج خبرة الآخر تعود الى تلك الايام. الغريب أن ما أعدت انتاجه في داخلي عشته في موقف خلف السدة نفسه في عام 1964. لقد أخضعونا للتدقيق في هوايتنا السياسية مبكرا جدا ، ولأننا لم نتشرف بمغادرة الوطن في ما بعد، كمناضلين او رساليين او يساريين او يمينيين ، فقد وزعنا انا ورياض قاسم الادوار : أنا أنسى وهو يتذكر . أنا أفقد التواريخ والاسماء وهو يسترجعها لي . في النهاية لم نعد نتحدث بجمل كاملة بل نهمهم وندردم ونصرخ ونغني وندوزن على الطاولة اغاني عبد الوهاب. كان شريكنا الجديد سامي محمد ، المايسترو الصامت ، (السختجي) حتى العقل ، الحزين حتى العظم ، تعصف به الكآبة فيصيح : اششششششششش! فننطلق ضاحكين على مصائبنا في الاختيار ما بين الكلام الفصيح والهمهمة الحيوانية التي تتوسطها اشارات سامي الملوكية.
منذ أن عرفت رياض قاسم في عام 1956 لم نتحدث في السياسة الا قليلا جدا. لقد امتلكنا هاجس اننا في سباق كئيب خاص بالتعبير : خير الكلام ما قل ودلّ. بيد اننا وإن خشينا الافعال العنيفة لم نخش الجنون . ففي احد الايام ، من دون اتفاق لغوي ، بالنظرات وحدها ، قمنا معا بتمزيق كل ما تحت ايدينا من مواد تحرير خاصة بمجلة الاذاعة والتلفزيون ، وكمية هائلة من المجلات والاوراق. ولقد استبدت نشوة التمزيق برياض الى حد انه مزق (قبوطه )المعلق على مسمار. لم يكن هذا كافيا – بالطبع – في تفريغ الليبيدو الغاضب. في الحقيقة لم نكن على معرفة باقتصادياته بل بمعرفة غامضة برمزياته المتحولة. إن الغضب الذي لا يصيب اهدافه الحقيقية يتحول الى كآبة وزعل دائم على النفس ، وفي حالتي كان النسيان خطة اصلية للهرب. وهكذا لم نكرر فعلتنا الجنونية مرة اخرى بل استبدلناها بتمزيق حياتنا.
في انقلاب شباط 1963 ستنقذ سمعة رياض قاسم كوجودي من التوقيف الطويل . ثمة ههنا حكاية طريفة تشير الى هزليات السياسة في العراق . فبعد الانقلاب قاد ابو الوجودية جان بول سارتر حملة ضد الانقلابيين دفاعا عن حرية الشعب العراقي ومن اجل إطلاق سراح عشرات الآلاف من الموقوفين . وهكذا عندما اطمأن رياض قاسم على سمعته كوجودي ، وعرّف نفسه لمحققي الحرس القومي في الفضل على انه كذلك ، فوجئ بمحقق فلتة من العارفين بوجود جماعتين للوجودية. سأله هذا بخبث : هل انت من جماعة جان بول سارتر؟
ومن دون ان يخفي رياض قاسم انزعاجه عاجله : بل من جماعة كامو!
مقتطفات من مقال سبق أن نشره الكاتب سهيل سامي نادر عن حادثة اعتقال رياض قاسم عام 2010.