TOP

جريدة المدى > عام > المدى تفتح مستقبل التعليم العالي في العراق..هل من سبيل إلى الإصلاح؟ ( 2 )

المدى تفتح مستقبل التعليم العالي في العراق..هل من سبيل إلى الإصلاح؟ ( 2 )

نشر في: 7 سبتمبر, 2015: 12:01 ص

( 1 )كنا قد انتهينا، في المقالة الأولى من مقالاتنا الثلاث عن مستقبل التعليم العالي في العراق، إلى أن الحلم في الإصلاح، بعد أن أفل مرتين من قبل، عاد مع حركة الشعب الجديدة، ولكنّ تحقُّقَه غير ممكن بدون قيادة أكاديمية تريد هذا فتضع اليد على سلبيات التعل

( 1 )
كنا قد انتهينا، في المقالة الأولى من مقالاتنا الثلاث عن مستقبل التعليم العالي في العراق، إلى أن الحلم في الإصلاح، بعد أن أفل مرتين من قبل، عاد مع حركة الشعب الجديدة، ولكنّ تحقُّقَه غير ممكن بدون قيادة أكاديمية تريد هذا فتضع اليد على سلبيات التعليم العالي، وتستخدم السبل الصائبة لتجاوزها. نقول ذلك، والأمل يقوى مع حركة الشارع والوسط الأكاديمي، حتى مع بوادر التسويف التي تَمثّلت في تخاذل الحكومة والبرلمان إزاء الحاجة إلى الإصلاح، وضمن ذلك، تعلقاً بالتعليم العالي، في ورقة الإصلاح التي أعدّتها وقدمتها لجنة "التعليم العالي والبحث العلمي" النيابية، فهي ورقة تجسد هذا التسويف والتعويم والسطحية بل محاولة (قشمرة) الجماهير وأكثر من ذلك منتسبي الجامعات والتعليم العالي، خصوصاً حين يقول عنها رئيس اللجنة، وكأنه يخاطب سُذّجاً لا علماء وطلبة: "ورقة الاصلاح، تضع حلولاً جذرية تساعد الخريجين على إيجاد وظائف لهم وإنهاء مشكلة البطالة التي يعانون منها". ومن الواضح أن من وضع هذه الورقة لا يعرف إلا القليل عن التعليم العالي والعمل الأكاديمي، والدليل على ذلك أننا من الممكن أن نرفع اسم (التعليم العالي) من (ورقة الإصلاح) ووضع اسم أي وزارة لتصح الورقة عليها وتبقى سطحية وتعويمية أيضاً.
إزاء تدهور التعليم العالي، نعتقد أن في مقدمة ما قاد إليه، إضافة إلى أوضاع العراق عموماً، هو مركزية الإدارة والقرار والسلطة الفوقية. فالتعليم العالي والعمل الجامعي هما أبعد ما يكونان عن تقبّل المركزية، خصوصاً وهي قادت وهي تمارَس على مؤسسات فرعية- جامعات وكليات مثلاً- إلى مركزيات متوالدة، حين انتقلت من مركزية وزارة إلى مركزية جامعة فمركزية كلية.. وهكذا. وكل ذلك كان من الطبيعي أن يقود المسؤول الأعلى إلى الاختيارات الخاطئة للمسؤولين الأدنى ولرؤساء الوحدات الإدارية الصغرى المختلفة ليضمن له ولمن يليه الطاعة وتطبيق ما يريدونه ويتّخذونه من قرارات، ولاسيما ما يتعلق منها بالأكاديمية والمسار العلمي، كان لا بد أن يكون الكثير منها خاطئاً، ليقود ذلك كله، في النهاية، إلى النتائج السيئة التي نراها اليوم في كل مرفق من مرافق المؤسسات الأكاديمية. فنحن نعرف أن القرار العلمي/ الأكاديمي الصحي أفضل ما يكون حين يصدر عن القسم العلمي المتخصص، في وقت جُردت فيه الأقسام العملية عندنا من جلّ صلاحياتها، حتى وإنْ ليس بشكل صريح أو معلن دائماً. فمعروف أن القسم العلمي هو الأعرف بالمجال العلمي وهو الذي يستطيع تقويم الأستاذ، والعمل البحثي، والمسار العلمي بشكل عام، في وقت يكاد بعض مسؤولي التعليم العالي وجامعاتنا، ومنها جامعة بغداد، يقومون بالكثير من هذا فوقياً، ليصيروا بهذا، في النتيجة، معرقلين للعملية والأكاديمية، كما جرى مثل هكذا إرباك حين اتخذ الوزير السابق قراراته الفوقية باستبعاد أساتذة الجامعات، وكما جرى من رئاسة جامعة بغداد في تعاملها مع تمديدات طلبة الدراسات العليا في بعض الكليات، وكما يجري لأقسام بعض الكليات باتخاذ عمدائها قرارات غير صائبة ولا يتفق معهم فيها رؤساء تلك الأقسام.

( 2 )
لأننا فصّلنا، في مقالاتنا الكثيرة، العديد من هكذا سلبيات وعيوب وأوضاع شاذة شملت كل شيء في التعليم العالي، تكفينا هنا مقارنة بسيطة بين واقع تصنيف الجامعات العراقية عالمياً وواقع تصنيف بعض الجامعات العربية والعالمية، لنعرف الحقيقة التي يجب أن لا نغمض أعيننا عنها، كما تفعل المؤسسات الرسمية وبفعل بعض مسؤوليها، بل مواجهتها بشجاعة والاعتراف بأنها جزء من حقيقة سلبية أكبر، هي واقع التعليم بشكل عام بل واقع العراق كله البائس والفاسد، فهي المواجهة الوحيدة التي تُمكّننا من التجاوز، إن أردنا فعلاً تجاوز هذا الواقع.
نعرف ابتداءً أن التعليم بشكل عام في العراق، وبعد أن كان في طليعة مستويات التعليم في البلدان العربية والمنطقة ودول العالم الثالث، انسحب، وبعد عقدين من الزمن، من احتلال أي موقع ضمن أفضل 80 بلداً عام 2015، وفقاً لأكبر تصنيف علمي للتعليم. ولكي نعي ما يعنيه ويدل عليه هذا، نشير إلى أن أكثر من عشرين بلداً آسيوياً قد احتلت مكانات ضمن هذه الـ 80 مركزاً، بل احتلت خمس بلدان منها المراكز الأربعة الأولى. أما على مستوى البلدان العربية، الذي هو أصلاً ليس بالجيد وقد خلا النصف الأول من المراكز من أي بلد منها، فاحتلت الإمارات المركز (45) والبحرين (57) ولبنان (58) والأردن (61)، لتتلوها بلدان عربية أخرى وصل بعضها إلى ذيل القائمة، وكان لا بد للعراق أن يكون في هذا الذيل كما هو شأنه في كل مجالات الحياة والمعرفة والتقدم، ولكن المفاجأة أنه لم يكن حتى في هذا الذيل، فغاب تماماً عن المراكز الثمانين، بل صار ثالث أسوأ تعليم في المنطقة.
أما التعليم العالي، متمثّلاً تحديداً بالجامعات، فنجد وُفْقَ تصنيف مؤسسة (يو إيس نيوز آند وولد ريبورت) الأمريكية الرائدة في تصنيفات التعليم، أن أفضل خمس جامعات في المنطقة العربية هي من السعودية ومصر ولبنان. أما وفق تصنيف (كيو إيس) البريطاني، فقد أخفقت جميع الجامعات العراقية من الدخول في التصنيف، عدا جامعة بغداد التي لعلي الأديب ورئيس جامعة بغداد أن يفخرا بأنها قد تراجعت في عهدهما من المركز (601) عام 2012/2013 إلى المركز (701) في العامين التاليين، ولا نعتقد أنها ستعود لتتقدم خلال العام الحالي، أي في عهد الوزير الشهرستاني، ببساطة لبقاء مسؤولي الجامعة أنفسهم وبسياساتهم اللا أكاديمية نفسها.
ومن المضحك المبكي هنا أن تعلّق جامعة بغداد على بوابتها في الجادرية قبل عامين، لافتة كبيرة تدّعي فيها تصنيفها في مركز متقدم عالمياً، وواضح أن ذلك كان وفقاً لأحد التصنيفات غير المعروفة، بينما تتباهى جامعة الكوفة قبل أربع سنوات باحتلالها المركز الأول على الجامعات العراقية التي يحتل معظمها ذيول التصنيفات العالمية، والأكثر سخرية أنْ تتباهى مجلتها، التي تتمتع بالتخصيصات المادية الاستثنائية، باحتلالها المركز الأول في بلد يعرف الأكاديميون الحقيقيون خلوّه من المجلات العلمية الأكاديمية الحقيقية. بقي أن نؤشر الحقيقة المضحكة الأخرى وهي أن (الإنجاز) الذي حققته جامعة بغداد، في ظل رئاستها السابقة، وفق تصنيف (كيو إيس)، وقبل تراجعها حتى عنه في ظل الرئاسة الحالية، جاء وفق مؤسسة بريطانية كانت قبل عام 2010 تقوم بالتصنيف بالاشتراك مع الـ(تايمس هاير إديوكيشن)، قبل أن تنفصل عنها لتبدأ بالقيام مستقلّةً بتصنيف واجهَ تحفظات كبيرة. فيقول ديفيد بلانشْفلاور من دارتموث كوليج، مثلاً، عن هذا التصنيف الذي يفتخر رئيس جامعة بغداد بما (حققته) الجامعة فيه: "هذا الترتيب هو هُراء (زبالة) ولا أحد يجب أن يضع أية مصداقية فيه، إذ تستند النتائج فيه على منهجية خاطئة تماماً.. إن (كيو إيس) مؤشر معيب، وينبغي تجاهله".

( 3 )
تعلقاً بأحد أهم مقومات التعليم الجامعي، نعني السياقات الأكاديمية، رأينا في ما سبق من مقالات، أن تجاوز هذه السياقات صار ظاهرة في (مرحلة الضياع الأكاديمي) التي نعيشها منذ أن بدأت قبل خمس سنوات حملة تهميش الأستاذ الجامعي وإذلاله وتحديداً حين تجسّدت بمجموعة قرارات صادمة سيذكرها تاريخ التعليم العالي في العراق دائماً، وأهمها: أولاً- المجزرة الأكاديمية المتمثّلة بإحالة آلافٍ من خيرة أساتذة العراق وعلمائه على التقاعد؛ ثانياً- العمل على استبعاد مئات الكفاءات العلمية بحجة الاجتثاث؛ وثالثاً- إلغاء ما صادق عليه مجلس النواب من قانون الخدمة الجامعية وتعطيل الإنجاز المتحقق للجامعة وللأستاذ الجامعي الذي صار ضحيةَ خصومةِ وزيرين قادت الوزير اللاحق، وهو يفتخر بما يفعله، إلى إلغاء كل مكسب حققه الوزير السابق للأستاذ الجامعي؛ رابعاً- تجاوز السياقات الجامعية الذي أشرنا إليه، وهو التجاوز الذي قاد إلى جلّ سلبيات التعليم العالي والجامعات العراقية. وحين نشخّص هذا التجاوز، فإننا لا نعني أشخاصاً أو أفعالَ أشخاصٍ، بل تجاوز المبدأ، وإلا فإننا قد نجد بعض من يتولوْن مسؤوليات أو مناصب بتجاوز، يحققون نجاحات في مناصبهم. ولنا مثلاً معاونَ عميدٍ للشؤون العلمية هو نموذج في العلمية والأكاديمية والتميز، لكن هذا يأتي استثناءً. أما الأصل فهو أن التجاوز أدّى ويؤدي إلى الكثير من السلبية والإضرار بجميع مجالات هذا الميدان، مثل القبول والامتحانات، وعدم استقرار التقويم الجامعي والعطل، وأجور الواجبات الأكاديمية، وتقاعد الأساتذة، والدراسات العليا، والزمالات والإجازات الدراسية والرحلات البحثية والتفرغ الجامعي، وأخيراً وليس آخراً التعيين واحتكار المناصب وتوزيعها على فئات معينة. فمع أن هناك نُظماً ثلاثة تتبعها الجامعات في العالم لتولي رئاسات الأقسام وعمادات الكليات وهي: نظام الانتخاب، والنظام الألفبائي لمن هم بلقت أستاذ وربما أستاذ مساعد أيضاً، ونظام التكليف بتوفّر شروط علمية معينة. وكل ذلك مما لا يتّبعه التعليم العالي والجامعات في العراق، بل تأتي تعييناتها وفق الآتي كما استنتجناه من قبل: أ) الانتماء الطائفي والحزبي والمحاصصة؛ ب) العلاقات والقرابة وربما الفساد؛ ج) الطاعة ورضا المسؤول الأعلى. أما الأكاديمية والتاريخ الشخصي والإنجاز، فيبدو أنْ لا مكان لها في ذلك. وكنت قد ذكرت في إحدى مقالاتي السابقة مثالاً على المركزية وتجاوز السياقات الأكاديمية والمحاصصة تكليفَ عميد كلية الآداب لي شخصياً بمهمة إدارة مجلة كلية الآداب قبل ثلاث سنوات وصدورَ الأمر بذلك ثم إلغاؤه بعد ثلاثة أيام فقط بمهزلة مخجلة تمثّلتْ باعتراض من (فوق).
لقد كان من الطبيعي أن يكون الكثير من المسؤولين الذين يتسلمون مناصبهم نتيجة هذه الطرق غير الصحية، جاهلين بالسياقات الأكاديمية، بينما لا يعي قسم آخر منهم أهمية هذه الممارسة الأكاديمية فتتحول عندهم إلى عمل روتيني بيروقراطي، ويحرص قسم ثالث على فعلِ ما يُرضي الما فوق، فيفرض من التعليمات ما قد لا يعرف مبرر لها، كما مثّلنا على ذلك بإقامة المؤتمرات والإشتراك فيها. فلا أدري، مثلاً، كيف لا يحسّ أي مسؤول بالخجل وهو يعرف، ولعله لا يعرف، أن جامعات العرب والعالم تُحيط أساتذتها بجميع أنواع الرعاية والاهتمام والاحتضان والتسيير والصرف، دعماً للمشاركة في المؤتمرات العلمية. وهنا قد يستغرب بعض مسؤولي التعليم العالي عندنا مثل هكذا بذل ورعاية مادية في جامعات بلدان مثل الأردن إزاء تواضع الدخل القومي المتواضع للبلد. فنجيب بكل بساطة لأن ذلك كله ينطلق من بُعْد نظر نفتقده هنا. وهو الوعي الذي تجسده الجامعات الغربية بالطبع حين تصرف على موفيدها باحترام تعرف، من تجربتها الطويلة ووعيها وبعد نظرها، مما يفتقده مسؤولو جامعاتنا وتعليمنا العالي، أن هذه المشاركات تعود عليها بالنفع، في النتيجة، وتحديداً في صعود الجامعة وامتداد تأثيرها.
وإذا ما أحسنا الظن في ما وراء كل سلبيات التعليم العالي، فسنجد الارتجال سيد الموقف فيها وكما هي الحال في جميع مؤسسات البلد. وكنّا نتمنى لو اقتصر الأمر على الارتجال، لأنه حتماً كان سيُقدّم بعض الجيد، ولكن أنْ يكون هناك الفساد وانعدام المهنية وتجاوز السياقات الأكاديمية، فهذا هو بشكل أساس ما أوصل التعليم العالي إلى ما هو عليه الآن، وفي الحالين نجد أن أغلب القرارات التي تتخذها القيادات العليا، في الجامعات العراقية مثلاً، تسهم بشكل أو بآخر في تعذيب الأستاذ الجامعي بل إذلاله وتعويق جميع منافذ تطوره وعطائه؛ واغتيال طموحات الطلبة، ولاسيما في الدراسات العليا، وتحول دون ارتقائهم إلى المستويات المأمولة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram