TOP

جريدة المدى > عام > (المدى) تفتح ملف مستقبل التعليم العالي في العراق ( 3 )..التعليم العالي حين يكون في مهب الريح

(المدى) تفتح ملف مستقبل التعليم العالي في العراق ( 3 )..التعليم العالي حين يكون في مهب الريح

نشر في: 12 سبتمبر, 2015: 12:01 ص

( 1 )في ظل ما رأيناه مما يؤشر سلبية وتدهوراً وربما فسادا في واقع التعليم العالي وجامعاته في العراق، وما وراء ذلك من ضياع القيم والعلمية والسياقات الاكاديمية ووصول من هم ليسوا أهلاً للمناصيب والمسؤوليات في التعليم العالي، أستطيع أن أفهم سبب صمت من هم

( 1 )
في ظل ما رأيناه مما يؤشر سلبية وتدهوراً وربما فسادا في واقع التعليم العالي وجامعاته في العراق، وما وراء ذلك من ضياع القيم والعلمية والسياقات الاكاديمية ووصول من هم ليسوا أهلاً للمناصيب والمسؤوليات في التعليم العالي، أستطيع أن أفهم سبب صمت من هم على كراسي المناصب من (أكاديميين) إزاء كل ما هو غير أكاديمي يصدر عن الجامعات أو عن الوزارة نفسها، وهو حرصهم على مناصبهم. فغالبية هؤلاء المسؤولين مستعدون للتضحية بالأكاديمية وبالعلمية وبالمصلحة العامة، في سبيل البقاء على كراسي المناصب وما تتيحه لهم من (سلطات)، ولحساب من هو وراء جلوسهم عليها، وتحديداً حين يجدون أنفسهم في مواقف يُضطرون فيها للاختيار ما بين الحفاظ على أكاديميتهم والتضحية بالمناصب، والحفاظ على المناصب بالتضحية بالأكاديمية. ومع وجود من يأبى التضحية بأكاديميته، فإننا كشفنا عن أن الغالبية يرتضون بالتضحية بالأكاديمية حفاظاً على المناصب، ولولا هذا السواد الأعطم لما تردّت الأكاديمية وهبطت جامعاتنا وساءت أحوالها. ولكن يبقى الأمر الغريب هو أن يصمت الأستاذ الجامعي وهو يرى التجاوز عليه وعلى السياقات الأكاديمية وعلى القيم التي بدونها لن يكون هناك تعليم عالٍ صحي، كما هو الواقع الآن.
وهنا نجد أن أكثر من وقع عليهم الغبن والتجاوز، وبالتالي يتصاعد استغرابنا من سكوت الأستاذ الجامعي على ذلك، هم متخصصو الدراسات الإنسانية، وكل ذلك انطلاقاً من ضيق أفق القيادة الأكاديمية في الوزارة والجامعات، وعدم قدرتها على رؤية ما هو أبعد من مدى نظر أعينها، وانغلاقها على تخصصاتها، وربما على مناصبها. إن المواقف السلبية، وربما المعادية للدراسات الإنسانية من مسؤولي التعليم العالي وكبار إدارييه وبعض رؤساء جامعاته، قد تمثلت، ضمن ما تمثلت فيه، في تضييق فرص التطوير والتحديث والتجديد؛ وهو التضييق الذي طال أساتذة هذه التخصصات، وطلبة دراساتها العليا؛ وإقامة المؤتمرات العلمية؛ وسائل دعم المشاركة في المؤتمرات العلمية؛ والاهتمام بالدوريات العلمية الدعم المادي لها؛ والزمالات والبعثات بمختلف مستوياتها؛ الرحلات البحثية للأساتذة وطلبة الدراسات العليا، وكثيراً ما وصل الأمر في كل ذلك إلى العرقلة وربما الإيقاف والألغاء والمنع.

( 2 )
وهنا نجد أن من الموضوعية والعلمية والأكاديمية، الإقرار بالحقائق الآتية: أولاً، ليس هناك من تخصص أو فرع علمي أو معرفي غير مهم، وإلا ما وُجد أصلاً، أو ما تواصل وجوده وأقرّته بلدان العالم؛ ولكن، ثانياً، تكتسب بعض التخصصات أهمية أكثر من تخصصات أخرى قد تقلّ أهميتها في مراحل وظروف معينة، لتفقد الأولى بعض أهميتها وتكتسب الأخيرة أهمية أكثر في مراحل وظروف أخرى؛ وثالثاً بين التخصصات جميعاً لا تكاد تتغير أهمية التخصصات الإنسانية، إلا بدرجات محدودة، ببساطة لأنها، فلسفةً ولغةً وأدباً واجتماعاً وتربيةً وتاريخاً وفناً وإعلاماً.. إلخ، تتعلق أولاً ببناء الإنسان قبل البلد، وثانياً لأنك في الوقت الذي تستطيع أن تغطّي الحاجة أو النقص في أي تخصص علمي، طبّاً أو صيدلةً أو هندسةً أو غيرها، باستجلاب العنصر الأجنبي بشكل مؤقت أو شبه دائم أو حتى دائم، بل ربما حتى بالتدريب غير الأكاديمي بالنسبة لبعضها، فإنك لا تستطيع أن تفعل ذلك بالقدر نفسه مع التخصص الإنساني؛ وثالثاً لأن المتخصصين في العلوم الإنسانية هم الذين يمتلكون الرؤية الأوسع والنظر الأبعد والفهم الأكثر واقعية للأمور كما يمكن أن نرى الآن تجسّد ذلك في ما وصل إليه التعليم العالي في ظل هيمنة ذوي التخصصات العلمية غير الإنسانية على جل مواقع القيادة والقرار؛ ورابعاً وتعلقاً بذلك، لأنه في الوقت الذي يستطيع فيه المتخصّص الإنساني فهم الحاجة للتخصصات العلمية، فإنه لصعب على المتخصص العلمي فهم الحاجة للتخصصات الإنسانية.
في ظل إغفال هذه الحقائق، تعرضت التخصصات الإنسانية خصوصاً اللغات وآدابها، والفنون الجميلة في جامعات العراق، ولاسيما بغداد، لمواقف سلبية تنمّ عن عدم القدرة على ربطها بالتحضّر والتطور، وعن جهلِ أنّ العرب يصرفون على دراسة لغتهم في مراحل الدراسة المدرسية والجامعية أقل مما تُخصّصه الأمم والبلدان المتقدمة على دراسة لغاتها فكم أتمنى على بعض مسؤولي التربية والتعليم والتعليم العالي ورؤساء الجامعات أن يوسّعوا أفقهم ليعوا أن الآداب والفنون الجميلة، تشكيلاً وموسيقى ونحتاً وتمثيلاً، والرياضة، ضرورية للمجتمعات أكثر من تخصصات مثل الطب والهندسة والصيدلة والجغرافية والقانون، دون أن نعني هنا عدم أهمية أي تخصص كما سبق لنا قول هذا من قبل. فهذه التخصصات الإنسانية هي التي تربي الفرد على القيمة الإنسانية والذوق ورقي السلوك، وتبعده عن العنف وسوء السلوك وتدنّي الذوق، بل عن الإرهاب. ولهذا ليس غريباً أن تحارب الحركات المتطرفة والإرهابية كل هذه التخصصات، فكيف نرتضي لمسؤولين في قطاعات التعليم والتعليم العالي أن لا ينظروا نظرةَ احترام كافٍ لهذا التخصصات، ولا يُوفّروا لها الدعم الكافي؟. أتمنى أن يعوا "أن الحياة بدون خيال مجرد ظاهرة بيولوجية" على حد قول بول ريكور، وبـ"أن النمو لمجرد النمو هو نفس مبدأ الخلية السرطانية" على حد تعبير إدوارد آبي.

( 3 )
إزاء النظرات الضيقة وعدم الفهم وصعوبة تقبل الآخر بما في ذلك التخصصات الأخرى، لم تحظَ إنجازات العديد من أساتذة الدراسات الإنسانية لإنجازات عالمية وعربية أي أهتمام ورعابة بل التفات. هنا يجب أن نعترف بأن بعض هكذا عدم اهتمام وتعالي مسؤولي التعليم العالي وجامعاته على الأستاذ الجامعي قد طال، وإن بدرجات مختلفة، جميع التخصصات، ولكن للأسباب التي رأيناها، حصلت التخصصات الإنسانية من هذا الإهمال على حصة الأسد. فقد رأينا، في إحدى مقالاتنا، أن رئيس جامعة بغداد، مثلاً، لم يجد مناصاً من اتخاذ موقف لا يُبدي فيه اهتمامه بأساتذته، فكان قراره المُحبط الي ينم عن أنه بعيد عن ما يجري في الميدان، والذي جاء فيه: "ارتأت الجامعة وفي خطوة منها لدعم وحثّ باحثيها المتميّزين والحاصلين على جوائز خارج العراق نحو تقديم الأفضل من خلال تكريمهم بالشكل الذي يتلاءم [كذا] مع ثقل ما قدموه... فقد تنسب توجيه شكر وتقدير للباحثين الحاصلين على جوائز خارج العراق في دول عربية وعالمية (وعن كل جائزة)، فضلاً عن تحمّل الجامعة تكاليف تذكرة سفر التدريسي أو الباحث". ومع كوميدية هذا القرار وسذاجة من اقترحه لرئيس الجامعة، فإن الرئيس لم يلتزم حتى به. هذا وغيره يثبت لي كما لغيري أنني في لقائي برئيسة (جائزة خليفة التربوية) التي حصل أحد كتبي عليها مؤخراً، كنت على حق حين سألتْني المسؤولة، وبحضور الصديق الدكتور صالح هويدي، عن رأي رئيس جامعتي بالجائزة وبنيلي لها، فأجبتها بالقول: إنها لا تعني أي شيء لا للجامعة ولا لأي مسؤول في وزارة التعليم العالي. وحين سألتني إنْ كنتُ أمانع، في ظل ذلك، في التعاون معهم للتعريف بالجائزة في العراق، أجبتها بأنْ لا مانع لدي بكل تأكيد ولكن بالتأكيد أيضاً ليس من خلال التعاون مع التعليم العالي والمؤسسات الرسمية، جامعاتٍ وغيرها، بل مع الأساتذة.
وإذا كان هذا وما تعرضنا إليه في المقالين السابقن أهم ما تناولناه في عموم مقالاتنا التي قاربت على العشرين، فإننا مررنا، ربما سريعاً ولكن بما يكفي، بموضوعات وجوانب أخرى لا تقل بؤساًعن تلك. وضمن أهم ما عرضناه كان جمود الوضع المادي والمالي للأستاذ إن لم نقل تراجعه، مقارنةً به في بلدان عربية عديدة، كما هو الحال مع جمود رواتب التدريسيين منذ نحو عشر سنوات، وتآكل الاقتراب الذي سعت إلى تحقيقه بعض الحكومات السابقة بين راتب الأستاذ العراقي ورواتب أساتذة أقطار عربية عديدة، بل إن الفرق الكبير جداً الذي كان بين راتب الأستاذ العراقي ورواتب الأساتذة في جميع أقطار الخليج العربي الذي كان مهيمناً قبل التغيير، يكاد يعود إلى سابق عهده، بينما يكاد يتساوى راتبا الأستاذ العراقي والأردني. أما مقادير المكافآت المختلفة فهي كاريكتارية فعلاً، ومثّلنا لهذا بالفروق غير المعقولة، في مكافلآت المناقشات والخبرات والمحاضرات، بين مقاديرها في العراق ومقاديرها في بلد مجاور أقل دخلاً قومياً من الدخل القومي العراقي بمرات عديدة، نعني الأردن.
وتعلّقاً بالتعليم الأهلي رأينا أن العيب لا في الغاية الربحية التي من الطبيعي أن تكون حاضرة، بل في من يركضون لتحقيقها سريعاً بكل الطرق ليكون ذلك في النتيجة على حساب الأهداف والغايات الأخرى، التي يُفترض أن مثل هذه المؤسسات/ الشركات تُؤسَّس من أجلها، نعني العلمية وتطوير البلد وتحقيق أحلام الشباب واحتضان المتطلعين لإكمال دراساتهم وتزويد السوق والمجتمع بالكفاءات البشرية. وفي ظل واقع هذا التعليم شبه المنفلت من الخيمة الأكاديمية أحياناً، وتمشياً مع كون مؤسساته عبارة عن شركات غالباً ما لا تجد تخصص العميد ومؤهلاته يتناسبان مع طبيعة ودراسات كلياته؛ وفي ظل ذلك عادة ما يبعد هذا العميد عن المتابعة العلمية للتطورات المطلوبة للكلية، وتقدم الهم المادي الربحي عند العميد لأنه هو فقط الذي يبقيه أطول فترة في منصبه.
وفي تناولنا للجانب الأمني في الجامعات وجدنا أمراً واحد لا يتبدل في الإجراءات الأمنية، وربما في غالبية القرارات والتعليمات والإجراءات التي تتخذها الكثير من مؤسسات التعليم العالي وجامعاته، ذلك هو إرهاق الأستاذ الجامعي وإتعابه وزيادة معاناته وربما إذلاله، ولا يعني للجهة المعنية، عميداً أو مديراً أو مسؤولاً أمنياً أو ضابطاً أو جندياً، أن تكون، وأنت تلقى هذا، أستاذاً أو كبيرَ سن أو امرأة حاملاً مثلاً، وكل ما عدا ذلك هو متغير.
ختاماً، وفي ظل بعض المنجزات والتجاوز والتغيير والظواهر الإيجابية، على قلّتها، نجد من الممكن للتعليم العالي أن يتجاوز السلبي وأن يحقق ما لم يحققه، ولكن في ظل الاعتراف أولاً بوجود هذا السلبي؛ وثانياً بتهيُّؤ النية والعزيمة؛ وثالثاً بالتوفّر على العناصر والأدوات اللازمة لتحقيق المطلوب وبشكل خاص العنصر البشري، نعني المسؤول القادر والكفء؛ ورابعاً بالعودة إلى السياقات الأكاديمية الصحيحة؛ ثم رابعاً وأخيراً بالشروع لتحقيق المطلوب إنجازاً وإصلاحاً وتجاوزاً وبناءً. فهل هذا كله موجود؟ وهل للحلم بجامعة عراقية عصرية أن يعود؟ بصراحة نشك، في ظلّ ما رأيناه، وفي ظل أنّ جلّ ما تدّعيه التعليم العالي، وجامعة بغداد، ومنها اللافتة التي علّقتها جامعة بغداد، قبل سنتين، عن احتلالها لمركز (متقدم) وفق تقويم دو، إنْ هو إلا إنجازات دون كيشوتية في الهواء وانتصاراتِ حروبٍ خيالية مع طواحين هواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram