صدى مقولة ماكرة بَرعت تداهم الحقيقة،وتتفوّق عليها،وتنال الأجدر والأقدر من مراتب عمليات شدّ الإنتباه وجذب الإستغراب المقنع وخلق الدهشة،حتى حين نلمحها تُلّوح براية اللأمعقول لتجتاز المعقول نفسه،وإلا ماذا يعني أن يقول أحدهم من الدُهاة المَكرة(جمع ماكر)
صدى مقولة ماكرة بَرعت تداهم الحقيقة،وتتفوّق عليها،وتنال الأجدر والأقدر من مراتب عمليات شدّ الإنتباه وجذب الإستغراب المقنع وخلق الدهشة،حتى حين نلمحها تُلّوح براية اللأمعقول لتجتاز المعقول نفسه،وإلا ماذا يعني أن يقول أحدهم من الدُهاة المَكرة(جمع ماكر) مثل هذا الكلام ؛(لعل النظر إلى ظل الأشياء ... أجمل بكثير من النظر الى الأشياء نفسها)،لنبقى نحن في حيرة محببّة،وقد تبدو رائقة -الى حد ملفت- إستنشاقات تلك العبارة بعطر ورحيق أزهارها.
لهذا المدخل مسعى تفضيلي-تحريضي قد يفضي بنا الى حيث أستنار النحّات(نهاد طارق العزاوي- تولد بغداد/1970بكالوريوس فنون جميلة-بغداد/2000) بمحاولات تطويع ملكات إهتمامه ومرامي تطلعاته نحو إمكانيات (نحت الظل) في الكثير من أعماله،وتوضيح وجهات نظره من خلال تعظيم دور الحلم،ليس من باب كونه(أي الحلم) إبلاغا رمزيا-بمعناه العام-بل من حيث كونه نشاطا جماليا مصاحبا للخيال،ولعل في هذه اللعبة التمويهيّة التي يقودها (الخيال)،بمعية من تلميحات (الحلم) وسعيه للتعبير عن الشيء بأفضل ما تكون عليه الأحلام،وبأفضل ما يستطيع الإنسان تصوره،حتى ولو بالتحايل على حواسه وتبديد مخاوفه لتحقيق مستويات من الراحة والإطمئنان،تقف رؤى غايات ما تريد وتسعى إلى طرحه منحوتات (نهاد العزاوي) في محافل سعيها نحو الإعتناء بجواذب هذا الجانب الخاص والمتميز في رهان نحته للظل،بإعتباره قيمة توازي أو تعادل تجسيداته للشخوص والحالات الوجدانيّة والنفسيّة،بل تفوق-أحيانا- على مخلوقاته البرونزية عبر سِجال ما جاءت تقترحه تلك الأعمال التي توّج بها ملاك معرضه الأخير على قاعة(دار الأندى-عمان/2014)بعد سيل مشاركات في معارض وملتقيات يعود أولها إلى مهرجان النحت الشبابي-بغداد/1995،فضلا عن مجاورات آخرى في عدد كبير من معارض جمعية الفنانين التشكيليين وباقي قاعات العروض الفنية في العراق،الى جانب مشاركات في معارض جماعية في كل من الشارقة/عمان/الدوحة،وعمله مدّرساً لمادة الحفر الطباعي(الكرافيك)في مركز الإبداع الفني في دولة قطر.
أرواح بظلال كثيفة
يُعد الظل-في مجمل تعريف علمي ومبتكر من لدن أحد أعضاء مدرسة التحليل النفسي-على إنه تكثيف نوعي لهيئة الإنسان بتحريف وتجريد غريب،كانت قد سبقتنا الشمس إلى إكتشافه،وأضحى ملازما لنا مثل أرواحنا،يُقصي هذا التعريف -قصدا إجرائيا- بقية هيئات الأشياء والموجودات التي تشاركنا الحياة على الأرض،ويُبقي على الإنسان كونه الهدف والمسعى الذي تنوء بحمله تلك المدرسة بملاكها الفرويدي مع (كارل غوستاف يونك)و(آدلر)وغيرهم من علماء السلوك البشري،الذين بشّروا وتناولوا بالبحث والدراسة محتويات الشعور و اللأشعور بشقيه الفردي والجمعي.
فيما يتسع مفهوم الظل في منحوتات نهاد العزاوي بثقلها البرونزي وصعوبة الوصول والحصول على نتيجة تُرضي ميوله ومساعي تفرده،عبر أستطالات شخوصه وتمزقات (مثمرة)-من الناحية الدرامية التي يقترحها النحّات-تبدو ماثلة على أجساد تلك الشخصيات(رجال ونساء) في عموم تمهيدات لحركات ووضعيات تزيد من حرارة اللحظات الإنسانية التي تجمع ما بين أبطاله،سواء أكانوا بهيئات كاملة أم بنواقص من أطراف أو أرجل غائبة أو مبتورة، يحاول الفنان ملأها أو تعويضها بتلك الِظلال النحتيّة الكثيفة التي يمهدّها لكي تسعى معه الى تكملة تلك النواقص (الفيزيلوجية) بمهارة وعي وبراعة تعبير يزواج مابين الكائن وظله التكميلي على النحو الذي يناور به نهاد عبر مكابدات نفسيّة وتنويعات عاطفيّة تواشج حقيقة تلك اللحظات التي تنتُجها حالات التصارع الكامنة في عموم منحوتاته على قواعد هي بمثابة أرضيات أوحلبات لتلك التوافدات الظلّية حين تتبادل أدوار ما يُنتج من إحتدام وتفاعلات وجدانية في خواص تلك الصراعات الدرامية،التي تَشهدها وتُشارك في(دراميتها) المقصودة تلك المساحات و الأرضيات،والتي -عادة- ما تكون جزءا فاعلا ورئيسيا، ضمن حيثيات وتفاصيل ولوازم ما تشمله عموم أعمال العزاوي،وهي تراهن على أن الجزء-فعلا- مكملا للكل،بمعنى أن أرضيّات وقواعد العمل في تجربة هذا النحّات،وفي خصوصيات تبنيه للظل-تحديدا- كمسعى دلالي وتعويضي،ليست مجرد وظيفة تقليدية جرى التعامل معها في الكثير من التجارب النحتيّة وفق ضيق ذلك المعيار المُحدد لغرضيّة ووظيفة القاعدة التي يتنصب عليها العمل الفني في مجال النحت،بل أضحت معادلا موضوعيا في سياق تصديراته وتصوراته ونواتج مبتغاه.
الحركة وليونة الشكل
تعدُّد الوضعيات والمثول أمام ليونة الحركة التي يطلق لها (نهاد العزاوي) العنان لكي تديم من لغة الصراع الدائم ما بين الإنسان وما بين موجوداته من أحكام وموانع و غرائز ومحددات إجتماعية وأعراف وتقاليد،وفق مقدرات إجرائية تُمهّد بروح متحدية،لجملة من قناعات قادرة في الدفاع عن وجودنا الإنساني الراسخ في تحدي كل أسوار وحدود المحرمات القمعية التي تتسترّ بها الكثير من تلك الأعراف والمحددات،من هنا تجد منحوتاته سبيلا وخلاصا كامنا في براعة تلك الحركة الدائمة التي تميّز مهاراته وأفكاره،وتعمّق من مسارات رؤاها نحو حيويّة الشكل وليونة الحركة التي تُكمل من أثر وقَدر حضور الإنسان رافضا ومقموعا في ذات تلك الحريّات الحركيّة بوضعياتها المُعدة والمُبتكرة من لدن نحّات يبدو ميالا-على نحو واضح وجريء- في تمرير مهاراته الإدائية عبر بوابات التعبير وحوافله التجريديّة إعتمادا على روح وثّابه ومعالجات حفريّة(أركيولوجي) تركت ظلالها وتنويعاتها في أطار ملاحم مصغّرة ومقاطع من تلك الملاحم بأبعادها التجسيديّة المعروفة أحيانا،وبنكهة وطراوة ما يمنحه النحت البارز(ريليف) في جوانب أخرى من مكملات الجهد الإبداعي الذي تناور من خلالها تلك الملاحم المصغّرة، بهيئاتها وتجلّيات عذاباتها على هذا النحو الحاني من الغنائيات الحزينة التي بَرعت تُرتلها معزوفات (نهاد العزاوي) البرونزية،في خواتم سعيها وفنارات وعيها في تعظيم شأن الإنسان وتحدياته أمام الكثير من المخاوف والإحباطات التأريخيّة واليوميّة في عالم تسوده القوة والعنف،وإذ يعتمل الظل(SHADOW) الذي هو الجزء الأدنى من الشخصيّة -من وجهة نظر التحليل النفسي-ويختصر كل العوامل النفسيّة والفرديّة والجمعيّة بسبب عدم تحمُّلة للسلوك الواعي المُختار،لذا وبحسب-(كارل غوستاف يونك)- يحرم الظل من التعبير عن الحياة ويلتحم-بالتالي- في إستقلال نسبي مع (الشخصيّة المتشظية) ذات النزعات المضادة في اللاوعي،ويتصرّف الظل تعويضا عن الوعي،من هنا،يمكن أن تكون تأثيراته إيجابية أو سلبيّة،بيد أن معاملات إرتباطه في منظومة وعي وتحفيزات (نهاد العزاوي) الإجرائيّة تختلف عن محايثات الجمال التقليدي وطبيعة السند الذي يقف عليه الظل،مُماثلا،مُقاربا من ترادفات التنوير والتبديل والتحفيز المستمر في معالجات تقنية متقدمة،مشفوعة بحيوية و إتزان وتطابق ذهني ما بين ضراوة وقسوة الواقع،ومابين تحليقات الحَلم وتأملاته الكونيّة كونه مُتمما نوعيّا لقيمة الهدف والمسعى الذي تبغي الوصول إليه مدفوعات هذا النحّات،ومستحقاته الإبداعيّة وهي تُجسّد قيمة الحياة وفهمنا لها من باب من يلّح بالقول:(نحن لا ننتمي إلأ لظل أجسادنا).