وأنا أحمل واحدة من لوحاتي التي غلفتها بشكل مناسب يحميها من حبات المطر الخفيف الذي استمر طوال الظهيرة في مدينة ليواردن، لأجل أيصالها الى شخص كنت على موعد معه، عبرت شارعين وقنطرة صغيرة لتعترض طريقي بناية قديمة تشبه قلعة عالية، اقتربت منها قليلاً وأنا أقرأ اليافطة المثبتة على الواجهة (بلوك هاوس بورد ) إذن هذا هو المكان الذي سمعت عنه كثيراً، والآن أمر من أمامه عن طريق المصادفة، أنه السجن الكبير والشهير من القرن التاسع عشر، وقد بني سنة 1874 ليوضع فيه سجناء المناطق الشمالية في هولندا. لكن هذا السجن قد تم اغلاقة منذ زمن طويل ليتحول الى مركز ثقافي وفني.
فكرت أن أدخل مباشرة لكني قررت أن أستمر في طريقي لأسلم اللوحة ثم أعود لأستكشف المكان وندرته وعمق ما يحتويه من مفارقة. وهكذا أكملت طريقي ووصلت الى موعدي وسلمت اللوحة، لم أبق هناك طويلاً وأجلّت احتساء قهوتي لأتمتع بها فيما بعد في (السجن). هكذا عدت أدراجي الى هذا المكان الجميل الذي كان يشغله عتاة المجرمين والقتلة واللصوص وقد تحول الى مكان ساحر وجذاب لكل باحث عن معنى الحياة التي يجب أن تستمر بإيجابية حيث يحوَّل القبح الى بستان من السلام والجمال ويخلق من الظلام مسرات .
لم تكن مصادفة بالتأكيد أن تقرر مدينة ليواردن أن يكون هذا المكان نقطة انطلاق نشاطاتها وفعالياتها بمناسبة اختيارها عاصمة الثقافة الأوروبية التي ستقام بعد سنتين، إذن من هذا المكان الذي أقف أمامه الآن سترمى سهام الجمال والألوان وفعاليات الرقص والمسرح والرسم وعروض الهواء الطلق حيث سيحضر الناس من كل مدن أوروبا والعالم لمعرفة ماستقدمة لهم المدينة من ثقافة وترفيه واحتفالات لا تنتهي.
أسحب نفسي المنشغلة بجمال الاحتفالات القادمة وأدخل الى المكان ليواجهني غاليري متخصص بالسيراميك مقسم الى قسمين الأول لعرض الأعمال والثاني مليء بفنانات وفنانين منشغلين بتكوين قطعهم غريبة الأشكال والأحجام، أبتسم لهم بمحبة وأحييهم ثم أعاود طريقي باتجاه غاليري آخر يعرض لوحات فنية ومنحوتات صغيرة. أستمر بالتجول لأجد نفسي في واحدة من باحات السجن المفتوحة من الأعلى التي كان يقضي فيها السجناء بعض الوقت لاستنشاق الهواء النقي والمشي في بعض الأوقات المخصصة لذلك، أرفع رأسي لأضحك بصوت مسموع وأنا أقرأ اللافتة التي كتب عليها بخط غريب بعض الشيء (مقهى السجن) وأدرك عندها أن هذه الباحة قد تحولت الى مقهى صيفي تحيط به مزهريات كبيرة وعالية يتجاوز ارتفاعها المتر والنصف، ومن هناك ألمح على الجانب الأيسر باباً جانبياً يؤدي الى الداخل حيث صالة المقهى الكبيرة المليئة بناس كثيرين تطغى على أغلبهم مسحة من البوهيمية، وهنا أقرر أن أحتسي قهوتي، في مقهى السجن، رائع أن تطلب قهوتك في السجن لتقدمها لك فتاة جميلة تبدو وكأنها تدرس الفنون الجملية وتعمل هنا بضعة ساعات في اليوم كي تحصل على نقود اضافية.
تجولت في أجزاء كثيرة من المكان وأنا أفكر كيف يمكن للانسان أن يقلب الليل الى نهار، كيف يمشي هذا الانسان نحو ضوء أيامه القادمة التي لا يعكر صفوها شيء، كيف يسير باتجاه هذه الخيارات الرائعة التي تتلألأ أمام خطواته مثل ذهب مستقبله الذي يقدره جيداً ؟ لا يقوم بذلك بكل تأكيد سوى إنسان يدرك معنى وقيمة وجوده.
ولكي تضيء بلدية المدينة مصابيحها كاملة نحو أفق الجمال فقد استدعت فناني وكتّاب المدينة ومبدعيها في باقي المجالات وعرضت عليهم زنزانات هذا السجن القديم ليستعملونها كمراسم وورشات فنية ومكانات للكتابة، هنا عليك أن تختار زنزانة فردية ان كنت تريد مرسماً صغيراً أو تشير الى زنزانة جماعية أن كان لديك مشروع يتعلق بورشة طباعة كرافيك أو مشغل سراميك على سبيل المثال ! هكذا توزع مبدعو المدينة في زنزاناتهم الجمالية التي تحولت مع الوقت الى معالم سياحية نادرة ومبهرة وجميلة، تعكس روح البلد والناس على إحياء الجمال من أشياء تبدو للآخرين بعيدة المنال.
ظهيرة في سجن مدهش
[post-views]
نشر في: 18 سبتمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...