بين مبيت الشعراء في(أووز)أسفل مدينة فاليري بفرنسا، حيث يمتد البحر غير منتهٍ هناك، وبين (بلاس دي بوفر) مبنى إدارة الفيستيفال مسافة تقطعها على الأقدام إن شئت، وإن لم تشأ فإن (لوغون) سائق الميني باص، لن يتأخرَ عليك أبداً، هو أكثر من منضبط في مواعيده. ولأن الشمس لا تهددُ أحداً، لأن الطريق أجملُ حين تقطعها ماشياً، فقد كنتُ أتخذ من قدميَّ دابةً، ما غلبني النوم وتأخرتُ عن موعد الحافلة. آنئذٍ سيكون طريقي محاذيا للبحر الكبير، وسيطول وقوفي عند محال بيع السمك وأكشاك الصيادين وباعة أدوات العوم والحبال. عالم من شباك وسنارات وأعواد ومظلات وقبعات مغرٍ لي، وفي السوق التي لا يفصلها عن القناة سوى شارع ضيق بممر واحد ورصيف. كنت أتأمل سلال الصيادين الملأى بأنواع السمك والمحّار والقواقع وهي تفرغ، أو وهي تُحمل مملوءةً إلى عنابر المطاعم الكبيرة.
على الجهة الثانية من القناة تصطف عشرات القوارب الملونة بأشرعة صغيرة أو بدون أشرعة، مع عشرات المطاعم والمقاهي والكازينوهات. وفي منتصف الطريق بين مكاتب الطيران والمقهى الصغير، القريبة من القناة، التي غالبا ما كنت أجد الشاعر اللبناني بول شاؤول متخذها مجلساً، هكذا كما كنا نجده جالسا ببيروت في مقهى الستار باكس أو الكوستا، لا يكلمه احد فيها. هناك حانة صغيرة، اسمها حانة (الصحبة السيئة) غلب اللون الأزرق على مقاعدها وشراشف طاولاتها. حتى ان المناديل الورقية البيض كانت تُطوى على هيئةِ مصابيحَ صغيرة لتبدو أكثر زرقة في الكؤوس، فهي تتموج في البلّور البحري. لا يجلس في الحانة هذه إلا الكرام من الرجال والنساء والولدان الشقر، ولا يؤمها إلا الاسوياء المعروفون منهم، كلّ جلاّس الحانة فخورون، معتدّون بأنفسهم، انيقون جداً، بعد أن يصبح الأزرق سيداً في الفضاء المحتشم الفسيح.
فجأة، وفي مساء أحد الآحاد أغلقت البلدية الشارعين المحاذيين للقناة، سيارة طويلة حمراء قطعت الطريق هذا ومثلها قطعت الطريق ذاك. لذا كان لزاما على باصات النقل العام أن تسلك شوارع اخرى بديلة. وفي بحر من ساعتين أو أقل تمكن أصحاب المطاعم والكازينوهات من نصب أكشاكهم في الهواء الطلق، هم يستعدون لحفلة باربكيو في مثل اليوم هذا من كل اسبوع. لذا، هيأوا الطاولات والكراسي والمظلات الملونة والأواني بما لا يتشابه بعضها مع البعض الآخر، قبالة الساحل هذا والساحل ذاك، وقبل حلول المساء صارت الضفتان تعجّان وتضجّان بالآلاف من سكان المدينة وغيرهم. كرنفال ألوان لا تعد، وموائد مشتهاة بلا نهايات. الكؤوس على الطاولات ممتلئة ونصف فارغة. النبيذ بطعم المساءات الحانية والاحمر منه سيّدٌ على الالوان كلها. فرق الراقصين ومجموعات العازفين تجوب الشارعَين، فرحُ وسعادة الجمهور أكبر من أن ترسم في لوحة، أبعد من ان تخط في ورقة. أريتم مدينة تقيم حفل باربكيو بهذا الحجم ؟
في الأحد الماضي أكل أهل سيت من اللحم ما لم يأكلوا من قبل، وشربوا من النبيذ ما لم يشربوا من قبل. رقصوا وغنوا وتعانقوا، قبّلوا بعضهم وضحكوا، قرأوا الشعر وتصفحوا جرائد المساء ثم آبوا، تركوا أصحاب المطاعم فرحين منشغلين يُحصون نقودهم .. لم أرَ سكراناً يخط بقدميه في الأزقة الكثيرة التي سلكها العائدون من ضفتي القناة. الناس في سيت لا يثملون أبداً، لا يشاكسون ولا يقهرون غريباً، لا يتجاوزون حدود السكر التي أباحتها المسرّات حتى وإن أمسى لهم ماءُ القناة نبيذاً قراحاً.
بـ "سيت" قرب مقهى السمعة السيئة
[post-views]
نشر في: 6 أكتوبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...