TOP

جريدة المدى > عام > جماليات مسخ الإنسان– العمى.. من رواية الى فيلم

جماليات مسخ الإنسان– العمى.. من رواية الى فيلم

نشر في: 10 أكتوبر, 2015: 12:01 ص

1-2
 
أطلق فيرناندو ميريليس فيلمه العمى blindness ، العام 2008 ، بيد إنّ المنتج السينمائي البرازيلي الذي هلّل للفكرة كان ينبغي عليه أن يتغلب على عدد من المعوقات قبل الشروع بإنتاج هذا الفيلم ، الذي كان تبنيا لرواية العمى الحائزة على جائزة نوبل

1-2

 

أطلق فيرناندو ميريليس فيلمه العمى blindness ، العام 2008 ، بيد إنّ المنتج السينمائي البرازيلي الذي هلّل للفكرة كان ينبغي عليه أن يتغلب على عدد من المعوقات قبل الشروع بإنتاج هذا الفيلم ، الذي كان تبنيا لرواية العمى الحائزة على جائزة نوبل لخوزيه ساراماغو1995، وصمت المؤلف الطويل لتحويل الرواية المتميزة بشكل خاص الى شاشة السينما، شكل تحديا مثيرا لمنتج الفيلم . وفي الحقيقة، أنّ المؤلف البرتغالي سبق له وأن قد رفض طويلا جميع العروض قبل المحاولة الأولية لحصول ميريليس على حقوق الإخراج في العام 1997.

 

كما قاوم المؤلف ساراماغو طويلا عروض روايته، زاعما أنه من المستحيل تمثيل فكرة العمى باستخدام الصور والضوء ، لأنها اكثر بكثير من صورة )لضوء التام .) الذي يعطينا صورة معاكسة تماما: وهنا ستكون استحالة في الرؤية . بيد أنّ اصرار ساراماغو قد لان أمام المخرج المساعد الموهوب لفيلم - مدينة الرب City of God- الذي يعدّ أحد مخرجي أميركا اللاتينية ، فضلا عن أنه مبدع للأفلام المعاصرة – وقد حصل أخيرا على إخراج الرواية الى فيلم . وانطلق المنتجون الكنديون والبرازيليون واليابانيون لإنتاج رواية العمى في مدن ساوباولو وتورنتو وعرض أخيرا في خريف عام 2008 .
وتسرد علينا رواية ساراماغو قصة حدث غريب، قصة فشل انثروبولوجي بأسلوب- مسخ نغمة ما بعد سفر الرؤيا - التي تقع احداثها في منتصف القرن العشرين تحديدا . ولسبب غير واضح ، أصيب مواطنون يسكنون في بيئة حضارية واحدهم بعد الآخر بمرض عمى غير محدد الملامح ، ودون سبب واضح ، ولا يحمل هؤلاء المصابون أسماء في الرواية وقدمهم السارد الروائي كما يلي : الأعمى الأول ، الصبي الأحول ، اللص ، الطبيب ، الفتاة ذات النظارات السوداء . ومن بين هؤلاء الشخصيات، شخصية زوجة الطبيب التي نجت من الإصابة ، وتحولت سريّا الى قائد لمجموعة صغيرة من العمي الذين وضعوا فورا في الحجر الصحي السابق للأمراض العقلية. وسرعان ما ساد الذعر بينهم حين تركوهم ليتصرفوا هم وشأنهم ، وارتفع الصراع والتحلل، وتحول الى معارك عنيفة من اجل القوة والوجود فيما بينهم . وعندما أصيب جميع سكان المدينة بالوباء راح العمي يتجولون بحثا في مزابل الشوارع علّهم يجدون ما يسدون به رمقهم ، وتحولت المدينة الى رمز مسخ متطرف ما بعد سفر الرؤيا . وفي نهاية الأمر ،استعاد العمي بصرهم ؛ وعلى كل حال ، فإن نتيجة ظاهرة الخراب الإنثروبولوجي بقيت غير واضحة المعالم .
إن الحصول على حقوق الرواية وتحويلها الى فيلم لا تعني بأي حال من الأحوال ، نهاية تحدي عقدة ميريليس . ففي جهوده للقبض على جوهر نص ساراماغو بإحكام قدرالإمكان؛ فإن المخرج واجه معوقات مرتبطة نموذجيا بأية محاولة مخلصة لتبني الأدب في السينما . بداية ربما يشعر المرء باحساس إيجابي بالدهشة وحتى بالتقييم للطريقة المؤثرة التي يصفها المخرج بصور الانطباعات التي وصف فيها ساراماغو لأول مرة العمى " كما لو أنني ألقيت في جو من الضباب او سقطت في بحر حليبي . " وهذا ما تتركه رواية العمى في مخيلة القارئ . وفي الحقيقة ، فإنّ المنتج البرازيلي للفيلم كان أقل تحديا في تصوير العمي" وكأنهم يعومون في أعماق بحر" أو "هم في جو من البياض غير قابل للاختراق . " الذي ترجمه المخرج على نحو فاعل الى بياض مظلل نادرا ما نراه في السينما اكثر من أي مجمع آخر ، واكثر مما هو افكار متناقضة " بياض ناصع جدا، يبتلع كليا اكثر مما يمتص ، ليس مجرد ألوان ، لكنه أشياء وكائنات "، وهكذا ، جمعهم مرتين بوصفهم مخلوقات غير مرئية " تماما كالصعوبة التي تواجهك في ترجمة فكرة غامضة لشخص ما زال لم يطرد النعاس عن عينيه " حين تخترق أصوات خارجية حاليا وشاح اللاوعي الذي مازال يلفنا كما قطعة بيضاء اللون. وبالتأكيد فإنّ من السهولة بمكان لميريليس أن يقدم لنا الوصف الرائع لساراماغو وبخاصة ما يشعر به الطبيب حين كان واقفا أمام المرآة " وقد عرف أنّ صورته كانت تراقبه ، كانت تراه ، لكنه في الوقت ذاته لا يرى صورته مطلقا . "
وربما يقال إن تمثيل ميريليس للعمى الأبيض هو تتويج لإنجاز هذا التبني في للرواية. فإن الأبيض غير المنظور ، الذي وصفه العمي في الرواية أنه "بحر أبيض" لا يمكن إعادة تأويله على الشاشة في مصطلحات ، دبقة ، نصف شفافة ، أو مجوعة من أشكال غامضة تطفو فوق اتساع لا لون له ، وفضاء لامع ، فضلا عن أنّ غياب اللون على الشاشة ، يجعل المشاهد يتململ، وبالمقابل فإن هذا الانطباع بالإمكان ان يتحول الى اشفاق وحتى الى نوع من العاطفة ، على العمي المتجولين بطريقة عبثية في هذا البحر الحليبي . خاصة أنّ السينما : حركة – صورة . ويتحدث ديليوز عنهما ، بوصفهما الطاقة المؤثرة في اللون الأبيض ، موحيا لنا ، بما يؤثر فينا ، وفي الوقت ذاته ، يخلق عنصرين : الأهلّية الثابتة للفضاء الأبيض والطاقة المكثّفة لما قد يحدث هنالك . وبطريقة مماثلة ، فإنّ الصور السينمائية الثابتة في استهلال المخرج السويدي إنغمار بيرغمان Ingmar Bergmanوصفها في فيلم"persona ، 1966 "الكتابة على البياض" حينما تحدّث عن قوة مساحة اللون الأبيض في السينما ، كان له تأثير استثنائي . وفي فيلم ميريليس فإنّ بريق اللون الأبيض يتحول الى اكثر كثافة مع حضور نقيضه من الألوان : ظلام دامس – ومرئي أمام المشاهد – وهذا يعني إمكانية السيطرة على الفضاءات عند تداول أيدي العمي فيما بينهم ، والتناقض الحاد ؛ يمكن أن يراه المشاهد حسب . ومن المحتمل أن يتحول الى تأثير مرئي حاد ايضا ، في رواية ساراماغو.
ومن الجانب الاخر ، فإن الصور المشبّعة والمتناقضة إلى أبعد حد فيما بينها، عن العمي ، ناهيك عن البيئة الحضارية المعقدة المحيطة بهم ؛ كل هذه تجعل المشاهد يشعر بإزعاج غريب ، كما لو أنّ هذا المكان الحضاري والواقعي بشكل واضح ، لم يكن مصاغا بدقة في هذا الفيلم . فضلا عن ذلك ، أنّ حركات الكاميرا السريعة ، والصور الطينية المشّوشة ، تضفي جزئيا أجواء من الظلام المرعب والخوف الذي يسببه العمي، هكذا ، وصفتها بلاغة ساراماغو. وهذا تماما ما عدّه الناقد السينمائي روجر إيبرت Roger Ebert ، ضعفا رئيسا في الفيلم ، ووصفه دون رحمة بأنه فلم فاسد، أحيانا ممسوخ ، وأحيانا أخرى ، مغبّش جدا للرؤية ... طين ، مقطّع ، وإضفاء قليل من اللون الحليبي الناصع عليه. " وفي الحقيقة فإن المخرج البرازيلي قد عاب بطريقة مفرطة التلاعب بالألوان ، والضوء، والتركيب ليعزز فلمه بتأثيرات يعتقد أنّها عاطفية . ورغم إنّ فيلم مدينة الرب ومع أنّه فيلم لاذع جدا ، فإنّه ايضا اطلق عليه سلبا بما أسماه "تجميل الجوع"Cosmetic Hunger ، وهذا مصطلح يشير الى صناعة ثقيلة وجماليات مخطط لها في تلك السينما التي تتناقض مع فكرة رأي ماهو معروف وايجابي لـ "جماليات الجوع" المصاغة والمنشورة من قبل منتج الفيلم البرازيلي غلوبير روشا Glauber Rocha ، في ستينيات القرن الماضي .
وكان اسلوب كتابة ساراماغو سببا آخر في النجاح الجزئي لتبني هذا الفيلم لرواية العمى . ويعدّ علامة فارقة لتضمينه فقرات طويلة مع تنقيط الحد الأدنى فيه ، فضلا عن انتقالات رشيقة بين الحقاقائق والمخيال ، التي تميل الى حالة من القلق في البداية ؛ بيد أنها ترتبط بحبكة في نهاية الأمر وتنتج احساسا بالبداهة التي تفتقد في الفيلم ، ربما ، باستثناء مشاهد داخل الحجر الصحي حين تكون سلسلة من خطوات تعجيل القطع السريع ، الذي يزيد من التوتر المطلوب وزيادة السرعة واللحظات الديناميكة . إنه ،أي الفيلم، مزيجا من الضربات العجينية من اللون الأسود ، والأبيض ، والكتل الطينية التي لا تتناغم مع رشاقة لغة الرواية التي تدفعنا للأمام . ورغم ذلك ، فإنّ صورالعمي تحمل دراماتيكيا قذارة ومخيما جهنميا حيث يحجر فيه المصابون بالعمي . ومع احترامنا لجماليات الفيلم ، والافكار المزدوجة لنقود الفيلم ، والرأي العام ، وهذا التبني للرواية المتألقة الحاصلة على جائزة نوبل لم يكن فشلا كبيرا، وهو ممتع حقا ، إن كان في غرابته ، أوفي مشاهده.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المالية النيابية: كلفة استخراج النفط من كردستان تصل 22 دولاراً

في رد رسمي.. محافظ بغداد يرفض قرار الإحالة إلى التقاعد

الدرجات الخاصة المصوت عليهم في البرلمان اليوم

نص قانون التعديل الأول للموازنة الذي أقره مجلس النواب

بالصور| أسواق الشورجة تستعد لإحياء "ليلة زكريا"

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram