فلاديمير بوتين مدخل غير مخاتل إلى ثقافتنا العربية المخاتلة، حيث تتقاطع مسارات التاريخ والعقل والحلم.. عندما تفترق (أو تلتقي!) الفكرة الشيوعية النبيلة (العدالة الاجتماعية والمساواة ورد الاعتبار للطبقات المسحوقة في المجتمع) مع أبشع أشكال الاستبداد والبيروقراطية في قيادة الحزب والدولة السوفييتيين!.
الشائع عن فلاديمير بوتين، عند العامة، أنه خرج من معطف الاستبداد السوفييتي، مسؤولا كبيرا عن أبشع مخابرات في العالم (الكي جي بي) ليتولى رئاسة الاتحاد الروسي بعد استقالة بوريس يليتسين عام 1999، ويليتسين (الرئيس لدولة عظمى) ابن لمعارض سياسي حكم بالإعدام (!) فهو مثل أحد أشهر كتاب الرواية السوفييتية، القرغيزي جنكيز إيتماتوف، الذي هو الآخر، ابن لمعارض سياسي أعدمه النظام السوفييتي!.
وبما أن الشهرة ظاهرة مثيرة للجدل والدجل معاً، فإيتماتوف عبقري الرواية السوفييتية، وهذا رأي نقدي خارج عن التأثير السيكولوجي للشهرة، والمفارقة أن إيتماتوف تبوأ مراكز ثقافية ودبلوماسية كبرى بينما هو من أشد نقاد البيروقراطية السوفييتة وروايته "وداعاً يا غوليساري" قرأناها بـ "اندهاش" لجهة جرأتها السياسية، وبإعجاب كبير لجماليتها السردية، أسوة برواياته الأخرى، مثل "جميلة" التي وصفها شاعر فرنسا لوي أراغون بأنها "أجمل قصة حب في القرن العشرين".
فلاديمير بوتين ابن هذه الثقافة المخاتلة، لذا فهو شخصية مخاتلة، أيضاً، حتى لو تجنبنا البحث في سيرته، بعمق، حيث هو هو اليوم، يقتحم سماءنا العربية بقواته الجوية ويقيم مستشاروه في الساحل السوري، معترضا طائرات التحالف الدولي لقصف مواقع تنظيم "داعش" كما يقول، بينما يقول الأمريكان والفرنسيون والألمان إنه يقصف معارضي الأسد لا "داعش"... وهكذا اخترقت طائرات بوتين حتى هذا العمود الصحفي الصغير لتأخذني أسيرا سياسيا بينما أردت لمدخلي غير المخاتل أن يمضي باتجاه آخر.لم يظهر بوتين من القمقم نجماً أسطورياً، فهو النجم منذ عام عام 2013 عندما وضعته مجلة "فوربس" في المركز الأول على قائمة أكثر الشخصيات العالمية تأثيراً.
شخصياً، عشقت الأدب الروسي، مراهقاً، من خلال الأدب السوفييتي، لا العكس، رغم أن "الظاهرة الروسية" ثقافياُ على تماس حميم مع ثقافتنا الشرقية، ومنها العربية، لجهة الانغماس الواضح في ثنائية الاستبداد الشرقي والتطلع للحرية الغربية، فرواية "الأم" لمكسيم غوركي أثرت في أجيال متعاقبة من ملايين القراء عبر العالم (وصفها فلاديمير إيليتش لينين بأنها رواية المرحلة) وكان "بول فلاسوف" الاسم الذي لا ينسى ابن "الأم" المناضلة والشاب الذي أسهم في النضال البروليتاري من أجل الشيوعية.
.. حتى غوركي، نفسه، كان يخوض سجالات معقدة مع "الزعيم" لينين بشأن الأدب والاشتراكية والرأسمالية (إقرأ رسالة لينين إلى غوركي).
ثمة قراءة غيرمخاتلة، أخرى ها هنا، تتعلق بالمقدمات النظرية، والإبداعية في صلبها، في ميدان "تحرير" طبقة مسحوقة عبر "قمع" بقية الطبقات، ولا أكتمكم أنني أدركت مبكراً، التباس المصطلح "دكتاتورية البروليتاريا" ولم "أحبه" منذ مراهقتي الثقافية وحتى اليوم.
آنا أخماتوفا، أبرز الشعراء السوفييت (البعض يعدها من أبرز شعراء العالم أيضاً) تخترق ذاكرتنا، بل تسهم في تعزيز أسئلتنا بشأن معضلة الحرية، وهي الشاعرة التي أعدم جوزيف ستالين زوجها ونفى ابنها إلى سيبريا.. فمن أختار؟ أخماتوفا أم ستالين؟
بصراحة؟أختار أنا أخماتوفا وأفضلها، لا على جوزيف ستالين فقط، بل على الاتحاد السوفييتي برمته.بوتين، ابن الاتحاد السوفييتي، ورجل مخابراته الأول، ووريث الحقب الاستبدادية كلها، لم يغير جلده ليصبح "المخلّص" و "المنتظر" الذي سيقضي على الإرهاب الداعشي حتى لو جر باراك أوباما من ربطة عنقه (فعلا، لا مجازاً، في صورة فوتوغرافية منشورة) ليقول له: أنا قادم، لست وحدك في الساحة!.. باختصار، ثمة حسابات دولية، حيث الحرب الباردة تعود بلبوس جديد، ونحن، فقط، ضحاياها، باردة و ساخنة.
فلاديمير بوتين.. مدخل غير مخاتل!
[post-views]
نشر في: 12 أكتوبر, 2015: 09:01 م