TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بنطرون التقشف

بنطرون التقشف

نشر في: 13 أكتوبر, 2015: 09:01 م

في سنوات فرض العقوبات الاقتصادية على العراق ، لجأ اصحاب الحرف والمهن الى ابتكار وسائل تعين عباد الله من ذوي الدخل المحدود على مواجهة صعوبة الظروف المعيشية بالتخفيف عن معاناتهم بتلبية حاجاتهم بتجديد ملابسهم القديمة . في احد الاسواق الشعبية بالعاصمة اتخذ الخياط جاسم من الرصيف مكانا لتقديم خدماته الجليلة للزبائن ، خاصة الشباب منهم ، فهو يستطيع ان يقلب قماش بنطرون الزبون ، مقابل ملبغ قليل ، يمنح الشاب امتياز الحصول على سروال جديد بطريقة الخياط المالكي ، فاستحق الدخول الى موسوعة غينيس للأرقام القياسية باخضاع الملابس القديمة الى شروط ما بعد الحداثة ، وباسمه سجلت اول براءة اختراع باجراء عملية تحويل بطانيات الجيش الى قماصل شاع استخدامها في عقد التسعينات بين اوساط الشباب للتعبيرعن رفضهم للحصار الجائر ، الشعار السائد في تلك السنوات العجاف .
حقق الخياط شهرة واسعة في احياء العاصمة ، ابتكاره تحول الى مصطلح متداول بين الاوساط الشعبية فما ان يقول احدهم "بنطرون جاسم" حتى يفهم السامع ان القول يتضمن الاشارة الى جهود الخياط في انقاذ الشباب من تكاليف دفع مبلغ كبير لشراء سروال جديد ، يجعل ميزانية اسرة الشاب تصاب بعجز مزمن ، لان اباه الموظف الحكومي يتقاضى راتبا شهريا لا يتجاوز ثلاثة الاف دينار ، فيما بلع سعر الكيلو غرام الواحد من لحم الغنم الفي دينار . تحت قسوة هذه المعادلة المرعبة ، كان الموظفون والمتقاعدون ، يقفون ساعات طوال في طوابير امام الاسواق المركزية لشراء حاجة وبيعها للحصول على موارد مالية تسعفهم في شراء بطيخة .
في الطوابير الطويلة امام الاسواق المركزية كان الحديث عن معاناة العوز يأخذ في بعض الاحيان استذكار احداث طريفة لا تخلو من تعبير خفي عن حجم المأساة ، فيذكر احد الواقفين من جماعة بنطرون جاسم ، ان مصلحة نقل الركاب قررت الغاء الارقام المكتوبة على القماش واستبدالها بقطع معدنية ، منحت منتسبيها حق الحصول على القماش ، ففصلوه ملابس داخلية ، من خام الشام تحمل الارقام المكتوبة باللون الاحمر ، بعد ان ينهي الراوي سرد الطرفة حتى يضيف الاخرون التعليقات والتفسيرات مع حرص شديد على الابتعاد عن اي تلميح يحمل دلالة تعبيرعن استياء وتذمر من انخفاض مستوى الدخل .
الحكومة العراقية اعلنت مؤخرا سعيها لبحث امكانية مشاركة القطاع الخاص في تجديد نشاط شركات التمويل الذاتي في بعض الوزرات وتحويلها من خاسرة الى رابحة ، في اطار الاصلاحات الاقتصادية لضمان الحصول على موارد اضافية لموازنة الدولة ، فضلا عن تحقيق الترشيق ومعالجة الترهل الاداري في مؤسسات عجزت عن توفير المستحقات المالية الشهرية لموظفيها.
الخياط جاسم غادر الحياة في عام 2005 ، نتيجة اصابته بجروح بليغة جراء انفجار سيارة مفخخة ، ابتكاره في تجديد السروال بطريقة حملت اسمه ، لم ينقلها الى احد ابنائه ، ليعيد نشاطها في ضوء استمرار الازمة المالية بانتاج بنطرون التقشف .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram