يضع الكثير من الثقافات (والدين من ضمنها) مسطرة حادة، كنصل السكين أحياناً، في النظر إلى حيوان ما، القطة والكلب والحصان والخنزير والطير بأنواعه، إلخ ، المجتمع الحيواني المتنوع، وأقول المتنوع مرتين: مرة في بيئته الأصلية وأساليب عيشه وأخلاقه ومبادئه، والثانية في ثقافة كل شعب من شعوب الأرض.
فما هو محرم عندنا يكون حلالا عند غيرنا، والعكس صحيح، على ان النظر إلى فصيل ما من الحيوان، كقطيع متجانس، من أكبر الأخطاء، كما يؤكد العلماء، بينما تعمل الدكتاتوريات، سياسية أو دينية، على "قطعنة" الناس لتسهيل اقتيادهم وتأطيرهم والإمعان في إذلالهم.
.. وإذ يفتخر بعض البشر، على مضض، بأنهم فصيل حيواني، ويعرّفهم علماء البيولوجيا والأجناس والإنثروبولوجيا على أساس الفرق في التفكير وانتصاب القامة والقدرة على الحلم أو التمدين وبناء الحضارات والتكنولوجيا المعقدة، فإن أغلب الحيوانات لا تحمل الشعور نفسه، مع الأسف، وهي محقة في هذا، عندما ترى ما يفعل البشر بالبشر من جرائم وحروب وسلب واحتلالات وعنف مفرط في بذاءته وقسوته.
رأيت، أكثر من مرة، في شارع عام، هنا في لندن حيث أقيم، شخصاً ملقى على الرصيف من دون أن يلتفت إليه المارة الراكضون إلى أشغالهم، أو حتى أولئك الموظفون، العاملون في منظمات حقوق الإنسان، رغم أن المجتمع البريطاني يعتبر، عموماً، من المجتمعات الرحيمة.
منذ شهور وأنا شبه متفرغ لقراءة سلسلة من الكتب العلمية التي تبحث في "التاريخ الطبيعي للحيوان" من الفأر حتى الأسد، مروراً بالثعلب والحصان والبومة والغراب والذئب والعنكبوت والضفدع، وعشرات غيرها، مثلما أواظب على مشاهدة قناة "جيوغرافي" الغنية بما تقدمه عن عالم الحيوان وأخلاقياته.جملة من الاستنتاجات التي توصلت إليها، بعد قراءة مشوقة، كما أقرأ أجمل الروايات والقصائد، حيث لغة العلم تتواشج مع لغة الشعر، بينما ثقافتنا "الحيوانية" فقيرة جداً، وتتلخص بما ترسخ في عقولنا من أساطير وأحكام و"حقائق" لا تمت إلى عالم الحيوان بصلة، فثمة حياة أخلاقية غير معروفة لنا، نحن البشر، الذين نعد أنفسنا أخلاقيين وبناة أرقى الحضارات. ثمة مشهد "حيواني" يتفوق على البشري، في لحظاته الإنسانية، مثل:
"أنثى فيل صغيرة تعتني بجرح في قائمتها بعدما طرحها فيل ذكر، صعب المراس ومتخم بالهرمونات، فتسرع إليها أنثى كبيرة وتقاوم ذاك الذكر لتطرده فيفر بعيداًعنها، ثم تعود إلى الصغيرة وتربت على قائمتها المصابة بخرطومها". والأمثلة مثل هذا لا تعد ولا تحصى.
ثمة تقدم علمي هائل يتوصل، اليوم، إلى كشوفات مذهلة بشأن "علم اجتماع الحيوان" إذا صحت التسمية، لكنه يقوم على تجارب بيولوجية وسيكولوجية في غاية الصرامة، كما يسميه المؤرخ الأمريكي دومينيك لاكابرا "لحظة الكشف الحيواني" التي تبحث الذكاء والمشاعر والإحساس بالعدالة والإنصاف في مجتمع الحيوانات.. باعتبارها أحد إنجازات القرن الحادي والعشرين.ويشير مارك بيكوف مؤلف كتاب "العدالة في عالم الحيوان – الحياة الأخلاقية للحيوانات" (1) إلى أننا، كبشر، منغلقون ومكتفون بمعلومات مبتسرة ويقينات بلا براهين حول القيم الأخلاقية للحيوان.يقول مارتن والن (2)، مثلاً، عن الثعلب: صحيح القول بأنه ماكر ومخادع، لكنه "يميل إلى الإخلال العام بالسائد، ورفضه الانصياع إلى تعريفنا المنهجي للطبيعة". وبهذا المعنى فإن الثعلب كائن ثوري، إذا اتفقنا مع توصيف والن، وعلينا أن لا نكتفي بأنه حيوان لا يمتلك أية موهبة عدا سرقته للدجاج، كما في قصصنا المدرسية.
أما الغراب، رمز الشؤم، في ثقافتنا العربية، فهو في نظر الكاتب المسرحي والشاعر الأيرلندي شون أوكاسي: "شخص فتي، مرح، رغم معطفه الداكن كالحبر".
1) العدالة في عالم الحيوان، مارك بيكوف وجيسيكا بيرس، ترجمة فاطمة غنيم. دار "كلمة" أبوظبي – 2010.
2) الثعلب، مارتن والن، ترجمة ريم الذوادي- الدار أعلاه.
نحن الحيوانات نرفض أن نكون بشراً
[post-views]
نشر في: 26 أكتوبر, 2015: 09:01 م