عجائب الفن لا تنتهي، والأيقونات التي تركها لنا الأساتذة العظام تبقى مستمرة بحضورها وتأثيرها في كل وقت وزمان، تجري باتجاهنا مثل نهر يتدفق بلا نهاية ولا توقف. إنه نهر الفن الخالد الذي يمر من أمامنا ليسقي ذائقتنا المتعطشة لكل ما هو متفرد ومؤثر.
هكذا شعرت بعظمة وخلود الفن وأنا أخطو وأقترب من لوحة غويا ذائعة الصيت (الثالث من حزيران) أو كما يسميها البعض بإعدام الثوار، في أحدى القاعات الكبيرة المخصصة له في متحف البرادو العظيم بمدينة مدريد. عندما وقع بصري عليها لم أتحرك للحظات، ثم سرت نحوها ببطء لأقف أمامها في رهبة، أتأملها بانبهار وأتخيل نفسي واحداً من هؤلاء الأبطال الذين يتصدون للبنادق بصدورهم العارية وقمصانهم مفتوحة الأزرار. هذه اللوحة التي تحدث عنها بيكاسو مراراً وأشار الى أعجابه بها وما تحتويه من ابتكار وخلق وإبداع وتأثير، هو الذي تأثر بها بشكل واضح في بعض أعماله ومنها الغورنيكا التي رسمها وهو يستلهم الكثير من هذا العمل الجبار بحيث أدخل مفردات عديدة مستوحاة من عمل غويا هذا، مثل المصباح والشخصيات التي تصرخ والقتلى الذين يتمددون على الأرض وحزمة الضوء التي تشهد على الحدث وتثبته في ثنايا التاريخ الى الأبد والأيدي التي ترتفع الى الأعلى وغيرها الكثير.
هكذا أشار غويا (1746- 1828) الى القتلة وفضحهم. هؤلاء فاقدو المشاعر الذين تعمَّد على وضعهم في الظلام، بينما جعل الثوار تحت الضوء الذي ينبعث من مصباح كبير، هذا الضوء الذي حول المشهد كله الى تراجيديا تثير الفجيعة وتوقظ الأنسانية في قلب كل من يشاهد هذه اللوحة التي رسمها الفنان العبقري سنة 1814 أي بعد الحدث الحقيقي للواقعة بست سنوات. أتأمل اللوحة بعمق لأرى أن غويا قد قام برسم القتلة الفرنسيين بهيئة ناس ضبابيين ليست لهم ملامح انسانية واضحة وفي مواجهتهم جعل الأبطال من الثوار الإسبان، أصحاب حضور ساطع تحت الضوء حيث وضع في مواجهتهم مصدر الإضاءة الكبير ليشير بشكل رمزي الى قوة حضورهم ووضوح صوتهم وهم ينادون بحرية بلدهم ضد الاحتلال الفرنسي آنذاك تحت حكم جوزيف بونابرت شقيق نابليون.
جعل غويا الجنود في هذه اللوحة الكبيرة يتكررون بأشكالهم مثل دمى حديدية وصوَّرهم من الجانب حيث تختفي وجوههم تحت جنح الظلام وبين اصطفاف بنادق حادة المظهر تطلق الرصاص دون رحمة أو تردد. كأنَّ الرماة هنا ليسوا بشراً بل كائنات غريبة ليست لها مشاعر في حين يقف في مواجهتهم الإسبان في وهج الضوء، كما في الشخصية الرئيسية التي تظهر وسط العمل حيث الثائر بقميصه الأبيض يفتح ذراعية في الأفق مثل المسيح وفي هذا دلالة رمزية واضحة أيضاً.
أتأمل العمل من ناحية التكوين والإخراج فيبدو لي كل شيء مدهشاً ومؤثراً بكل معنى الكلمة حيث تظهر بين حاملي البنادق والقتلى مجموعة من الأشخاص الذين يشهدون على الحدث، يبكون وهم يضعون أيديهم على أعينهم حتى لا يروا المشهد المفزع، يالهم من شهود في ليلة قتل مظلمة. وفي العمق في وسط اللوحة الى أعلى تظهر القرية وبرج الكنيسة المرتفع وسط الظلام وهو يطل بسكينة على مصير هؤلاء الأبطال الذين لا يتكئون على شيء سوى التلة أو المرتفع الذي خلف ظهورهم.
رغم أن الغرض من هذه اللوحة كان دعائياً حيث تبدو وكأنها تشير الى هذه الواقعة بطريقة البروباغاندا، لكنها مع الوقت أصبحت احدى أيقونات الفن على مرّ العصور وواحدة من اللوحات التي أثرت على الكثير من الفنانين خلال المئتي سنة الماضية سواء بتعبيريتها المبكرة أو الحرية في المعالجة ورسم تفاصيلها أو رمزية موضوعها ومفرداتها أو حتى تكوينها المؤثر.
تأثيرها بقي واضحاً على الكثير من الأعمال مثل عمل بيكاسو( مذبحة كوريا) الموجود في متحفه بمدينة باريس، وكذلك في لوحة أدوارد مانيه (أعدام ماكسيميليان) الموجودة في متحف كنستهال بمدينة مانهم الألمانية وأعمال أخرى لفنانين كثيرين موزعة على متاحف العالم.
غويا يكشف القتلة
[post-views]
نشر في: 30 أكتوبر, 2015: 09:01 م