TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الشعر والأخلاق

الشعر والأخلاق

نشر في: 1 نوفمبر, 2015: 09:01 م

(3)
قبل عقدين من الزمان من موقفِ أدونيس، الذي تحدثتُ عنه في الحلقة السابقة، بشأن إنكار المعيار الأخلاقي في الشعر واعتماد المعيار الجمالي، كان له موقفٌ متعارضٌ تماماً، وأكثر جذرية. ففي كتابه الممتاز "الشعرية العربية"(دار الآداب 1985)، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في الكوليج دو فرانس، يعود، في فصل "الشعر والفكر"، إلى ظواهر حول الشعرية والفكر عند العرب، تبخَسُ حقَّ الشعر كمصدر للمعرفة والوعي. فالشعرُ "بالنسبة إلى العرب الذين نظروا له، إما أنه "ممتعٌ مطربٌ"، وإما أنه "منفيٌّ مطرود"... والشعر في أحسن ما يوصف به، لعب ومحاكاة وتقليد."ص58، "وربما كان في هذا ما يفسر دينياً قصرَ الشعر على الإحساس، والفصلَ بينه وبين الفكر. فليس للشعر أن يتجاوزَ أولَ العلم، وهو ما يتيحه الحس. أما ما تجاوز الحسَ فهو للدين. ومن هنا ساد الاعتقاد أن الشعرَ عاجزٌ بطبيعته، أن يقدمَ معرفةً، أو يكشفَ عن حقيقة، لأنه كمثل مصدره، وهو الحس، خادعٌ وباطل. فلا ندرك الحقيقةَ بالشعر، بل بالدين وحده. ويكون دورُ الشعر حصراً في توفير المتعة الجمالية ــــ كما يتيحها الدين ــــ ويضع حدودها.
وفي هذا ما يخالف جذرَ الكلمة، فهذا الجذرُ يتيح لنا أن نعيدَ النظرَ في المصطلح السائد في الشعر، وأن نوحّدَ بينه وبين الفكر، من حيث أنه لا يكتفي بأن يُحسَّ بالأشياء، وإنما يُفكرَّ بها."ص59.
ثم يُضيف أدونيس، توكيداً لهذا الموقف النقدي: "إن ما نفتقدُه في النظرية، نراه في النص الابداعي. فهذا النص الذي نجده عند بعض الشعراء من جهة، وعند بعض المتصوفين من جهة ثانية، يخترق تلك النظم المعرفية وتنظيراتها، إذ أنه يحقق في بنيته وفي رؤيته علاقةً عضويةً بين الشعرية والفكرية، ويفتح أمامنا بحدوسه واستبصاراته أفقاً جمالياً جديداً، وأفقاً فكرياً جديداً."ص60.
أفقُ أدونيس النقدي هنا بالغ الصحو والوضوح والعافية. وعلى هدى هذا الأفق النقدي وضع نصين في أبي نواس والمعري رائعين، فيهما تجد كم هي مضاءة دفقة التغيير في الحياة والفكر والأخلاق: "هكذا نستشف دائماً وراء النص طريقاً للمعرفة خاصة، ونظاماُ أخلاقياً خاصاً."ص62.
علاقةُ الشعر بالأخلاق بالغةُ التعقيد، وليست باليسر الذي وضعها فيه أدونيس في مرحلته المتأخرة، وكثيرون غيره من شعراءِ ونقادِ العربية. لأن القيمةَ الجمالية قيمةٌ جوهريةٌ في الشعر. ومن يشك في هذا؟ على أننا نحتاج أن نعرف أين تكمن؟ كما أن القيمةَ الأخلاقيةَ جوهريةٌ هي الأخرى. على أن المشكلةَ تكمن في أن النقادَ يحاولون معظمَ الأحيان وضع القيمتين مستقلتين عن بعض. مع أنهما، في التجربة الشعرية، غير منفصلتين.
المفكر البلغاري/الفرنسي المعروف تودوروف، في ملف " الأخلاق والفن" في مجلة Salmagundi الأمريكية (صيف 1996)، يوضح الأمر بيسر أكثر: " الشعرُ يسعى لصلاح ذي طيتين لعالمنا، أولاً عبر إضافة الجمال له، شأن الفنون جميعاً: فرائع أن تعيش في عالم يتوفر على موسيقى شوبرت. والثاني أن الشعرَ يسعى، شأن كل فن يشير إلى مدلول خارجه، إلى جعل العالم أكثرَ وضوحاً، وأغنى معنىً، وبالتالي أفضل. لا لأن الشاعر يصرّح بمبدأ أخلاقي، أو بمبدأ أكثر أخلاقية من مبدأ آخر، لصلاح العالم، بل لأنه يكشف لنا عن الحقيقة. فالشاعر لا يخضع لمعيار أخلاقي خارجي، أو يُملي درساً في الأخلاق. فهو عبر إنجاز عمل جميل، وذي معنى، يقدم لنا واجبه الأخلاقي."
إن شاعرين كبيرين مثل أبي نواس وأبي العلاء، على سبيل المثال، يبدوان متعارضين بصورة حادة. فالأول يجد الحقيقة في مسراتِ الدنيا ولذائذها، ولا يتطلعُ لما بعد الدنيا. والثاني يجدُ الحقيقةَ في العزلةِ وإماتةِ الرغائبِ والتطلعات، ويحدّقُ بالمصير الذي يراه هوةً. والواقع أنهما يبدوان للبصيرة الشعرية قريبين من بعض بصورة فائقة: إذ كلاهما يسعى إلى الجمال وإلى الحقيقة، عبر معانقة الحياة الحاضرة، أو عبر معانقة التساؤل الشارد خارج الزمان كله. كلاهما يقول: "ديني لنفسي ودين الناس للناس." وبفعل صدقهما في هذا المسعى يقدمان لنا واجبهما الأخلاقي دون شوائب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram