TOP

جريدة المدى > عام > الأحكام في الأدب والنقد..حين تغادرها الدقة

الأحكام في الأدب والنقد..حين تغادرها الدقة

نشر في: 3 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

ضمن مادة (مختبر سردي) التي أدرّسها في مرحلة الماجستير، طلبتُ من طلبة إحدى الدورات قراءة روايتين عالميتين ومثلهما عربيتين ومثلهما عراقيتين، ففوجئت بإحدى طالباتي، وأنا من عادتي أن أناقش مفردات المنهج مع طلبة الدراسات العليا، تقترح أو تتمنى عليّ قَصْر ا

ضمن مادة (مختبر سردي) التي أدرّسها في مرحلة الماجستير، طلبتُ من طلبة إحدى الدورات قراءة روايتين عالميتين ومثلهما عربيتين ومثلهما عراقيتين، ففوجئت بإحدى طالباتي، وأنا من عادتي أن أناقش مفردات المنهج مع طلبة الدراسات العليا، تقترح أو تتمنى عليّ قَصْر المطلوب على روايات عالمية وعربية، أي دون العراقية.

 

لماذا؟ سألتها، فأجابت لأن الروايات العراقية مملّة ولا تُمتع. فوجئت مرة أخرى، فسألتها عن عدد الروايات العراقية التي قرأَتْها ولاسيما من روايات العقد الأخير، الذي شهد متغيرات في السياسة والمجتمع والثقافة، وبالضرورة في الأدب والرواية ذاتها، لتكوّن هذا الرأي؟ وكل ظنّي أنها لا بد أن تكون قد قرأت عشرات الروايات، ففوجئت للمرة الثالثة بأنها قرأت رواية واحدة من روايات ما قبل عام 2003، وأخرى من روايات ما بعد ذلك. تصوروا تقرأ روايتين، واحدة من مجموع أكثر من 700 رواية صدرت قبل 2003، وواحدة من مجموع ما يقارب 700 صدرت بعد ذلك. إذن هو رأي لا يعتمد التجربة والتجريب والقراءة والاطلاع، بل الآراء الشائعة التي كثيراً ما تكون خاطئة، أو على الأقل تعود إلى زمن آخر. ومثل هذا كثير، ليس في الثقافة والأدب، بل في حياتنا عموماً، وهو ما يكون نتيجة استسهال الحكم، ويقود إلى ترديد مثل هذه الأحكام.
أمر غريب جداً، بل قد يكون مضحكاً، إذن، أنْ يصدر مثل هذا الحكم على الرواية العراقية، الذي قد يكون بدرجة ما صحيحاً في زمن معين، من طالب دراسات أولية نفترض أنه على اطّلاع عام على هذه الرواية. ومع هذا صرنا في هذا الزمن نعدّه مقبولاً وإنْ جزئياً فقط، ولكنْ أن يصدر عن طالب اختصاص فهذا أمرٌ غير مقبول. مع هذا اكتشفت أنه هو الآخر لم يعد غريباً جداً في الوسط الأدبي والثقافي، وعليه تقبّلْتُه وسأتقبل أمثاله مرغماً، ولكن يبقى الأغرب هو أن نجد مثل هكذا رأي، ينبني على معلومات وخلفيات وقراءات غير مناسبة، يصدر عن نقاد وباحثين وأكاديميين.
لقد اعتدتُ أيضاً، في تدريسي لمساقات النقد، على أن أقول لطلبتي، لاسيما في الدراسات العليا، ليس هناك من صح وخطأ في النقد إلا في حالات نادرة منها ما يتعلق بالوقائع التاريخية التي تُذكر في التمهيد للممارسة النقدية أو في خلفيتها أو على هامشها، وفي بعض الخطوات المنهجية والإجرائية، لأنك، في النقد تعبّر عن وجهة نظر بل عن انطباع ومزاج وميل أو عدم ميل أحياناً، حتى وأنت تتبع منهجاً نصّياً صارماً. كما أنك تنطلق من منطلقات قد تكون غير تلك التي ينطلق منها غيرك، وقد تعبّر عن خلفيات خاصة بفكر أو فلسفة أو حتى طروحات سياسية غير تلك التي ينطلق منها الآخرون، ومن ثقافة تختلف جزئياً أو كلياً عن ثقافات غيرك، ومن تجارب وخبرات غير تلك التي للآخرين. وفي النتيجة من الطبيعي أن تكون نظرتك للنصوص غير نظرتهم، وتمثل آفاقَ تلقٍّ خاص تتحكم برؤياك أو على الأقل تؤثر وتلعب دوراً فيها. واعتدتُ أن أضرب مثلاً توضيحياً مباشراً وبسيطاً جداً هو لوحة السبورة لأقول قد يكون لكلّ منّا رأي في تحديد لونها بدقة، فيقول بعضنا إنها خضراء، ويقول آخر هي خضراء فاتحة وثالث يقول خضراء غامقة، بينما يقول رابع هي زيتونية، وغير ذلك. وكل قول من هذا يكون مبرراً بالدافع والتأثيرات والمنطلقات واختلاف زوايا النظر، وبما يعني أن لكلّ منا منطقه وما يبرره، ولكن من غير المنطقي أن يقول أحد إن السبورة صفراء أو حمراء، مثلاً، بحجة أن هذا رأيه ومن حقه أن يكون له رأي، ببساطة لأن رأيه هذا غير مبني على أي شيء يبرره أو يسوّغه.
من هنا من الطبيعي أن نختلف في النقد، ببساطة لأن النقد لا يعرف الصح والخطأ إلا بحدود ضيقة جداً، كما قلنا، ولاسيما حين يكون معيارياً، أو حين يقوم الناقد بوظيفة تحكيم أو تصحيح امتحاني مثلاً، أو حين يتعلق الأمر بحب عمل وعدم حبه، أو حين يتعلق بالعمل بوصفه واقعة، أي عملاً ينتسب إلى مؤلف وزمن وتاريخ. ولذا من الطبيعي أيضاً أن نختلف في الموقف من أي نص أدبي بل من أي قضية، وأن لا تتطابق آراؤنا، وقد تتقارب، وقد لا تتقارب كثيراً، بل حتى تتباعد، ولكن أن تأتي الآراء على طرفي نقيض، أو أن يأتي رأي بعيداً إلى حد الشذوذ والمخالَفة الكلية مع الآراء الأخرى كلها، فهذا ما لا ننتظره من ناقد حصيف. المفارقة أننا نرى حدوث مثل هذا وصدوره من نقاد وباحثين وأكاديميين، وإنْ لم ليس بالكثرة، وهو ما يصدمنا أكثر حين يكون الناقد أكاديمياً، وهو عينه ما يجعلنا نتفهم أن يصدر شيء كالذي صدر عن تلميذتنا.
والحقيقة أن هذا، الذي شخصناه بعد الدقة، ينسحب على الأدب عموماً إبداعاً ونقداً وبحثاً وواقعاً بشكل عام، لكننا اتخذنا من الرواية ما يتعلق بها نموذجا، كون جلّه يتعلق بها، وتحديداً بمنجزات الرواية العراقية، والرواية النسوية منها، وعدد الروائيين وغير ذلك. فمن ذلك مثلاً نستحضر تقدير بعضهم عدد الروايات العراقية التي صدرت خلال السنوات العشر التي تلت احتلال عام 2003 بين 70 و100 رواية، بينما العدد الحقيقي ليس أكثر من ذلك بل هو يكاد يكون خمسة أضعافه، إذ يتجاوز الـ 400 رواية. ومن ذلك أيضاً حَسْم بعض النقاد، وباستسهال، الرأي بأن الرواية خلال تلك المدة نفسها بأنها لم تتمثّل المتغيرات والأحداث والواقع عموماً، بينما الصحيح ليس أن هناك روايات عديدة فعلت ذلك فحسب، بل هي ليست كثيرة فحسب، بل ما كادت رواية عراقية صدرت لم تفعل ذلك.
وإذا كان هذا يتعلق بالرواية العراقية، فإنه لا يقتصر عليها، فنتذكر المقولة الشهيرة عن (موت الرواية) التي قال بها بعض الأوروبيين في الستينات وأكثر من ذلك في السبعينات، فانساقَ خلفها بعض نقادنا وباحثينا وكتّابنا وبتطرّف وجزم، ونحن نعرف أن المفاجأة كانت أن الرواية لم تعش فقط بل صار العصر عصر الرواية، حين شهد هذا الفن ما لم يشهده في تاريخه من ازدهار. وهذه المقولة المنطلقة من رأي زائف، تذكرنا بمقولات الموت التي لا تخرج عن توصيفنا لمثل هكذا مقولات بأنها تفتقد الدقة، وهي كثيرة وافتقدت غالبيتها العظمى، إن لم تكن جميعها، الصواب، واشتهر باستسهال القول بها الناقد عبدالله الغذامي حين قال بموت النقد الأدبي، والأدب، والكلمة، والنخبة.. وغيرها مما لم يمت أي واحد منها، وهي المقولات التي تعني أن مثل هكذا إطلاق وعدم دقة قد اخترقت الأكاديمية. وهنا استحضر أن أحد الأساتذة في أحد أقسام اللغة العربية بجامعة بغداد لم يؤيد مرةً اختيار طالبة ماجستير لروائية عراقية موضوعاً لرسالتها، بحجة أنْ ليس لها غير روايتين أو ثلاث. هنا الغريب أن تلك الكاتبة لم يكن لها أكثر من ذلك فحسب، ولم تكن لها روايات كثيرة فحسب، بل المفاجأة أنها كانت أكثر روائية عراقية إنتاجاً في تاريخ الرواية العراقية!!
ومن أمثلة الأحكام غير الدقيقة في الأوساط الأكاديمية والنقدية، أنني كُلفت مرة ضمن لجنة في أحد المؤتمرات لتقييم بحوث المؤتمر وتحديد المتميز منها، ثم اختيار أفضلها، فاتفقنا أنا وثلاثة أعضاء آخرين من أعضاء لجنة التقييم الخمسة على أحدها بوصفه البحث الأفضل على الإطلاق، ففُوجئنا بالعضو الخامس لا يخالفنا في اعتبارنا ذلك البحث هو الأفضل، ولا في اعتباره أحد البحوث المتميزة، ولا في أنه أحد البحوث المقبولة، بل يعتبره بحثاً ضعيفاً.
ومثل هذا قد يحضر حتى في مناقشات الرسائل والأطاريح، وهنا أتذكر أحد المناقشين عاب مرّةً على رسالة باحث ماجستير قلّة عدد مصادرها. والمفاجأة أن الطالب لم يأتِ بعدد كبير من المصادر، ولا بعدد كافٍ منها فقط، بل اعتمد مصادر الأديب المدروس جميعاً، ليعني هذا أنْ ليس من وسط ثقافي أو علمي بمحصّن من أهل الاستسهال الذين تغادر أحكامهم الدقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. خليلو...

    نقد لنقد/ لا نجد ناقداانگليزيا لا يملك زمام اللغة الانگليزية كذلك الحال مع الناقد الفرنسي وغيرهما من النقاد كل يمتلك ما إمتلكه قرينه الذي ذكرته في صدر التعليق هذا .فلم نحن الكتاب بالعربية نفتقر الى الأساس من مؤهلات الكتابة بالعربية .فحين يكتب احدنا بحثا

  2. علاء خالد

    السيد (خليلو) أراك تعلّق وتنقد غيرك، وكأنك سيبويه اللغة أو خليلها!! وأنت لا تميز في كتابتك همزة الوصل من القطع ( إمتلكه قرينه..) أنموذجاً! فضلاً عن أنّ ما رصده رقيبك هو خطأ لغوي شائع؛ أي متداول، وقد يفوت الباحث والكاتب التركيز على الأخطاء الشائعة؛ لأنه

  3. خليلو...

    شكرا لك عزيزي علاء خالد جزيلا أرجو أن تعذرني فيما أخذته علي من جهلي التمييز بين الهمزتين فإن ما اوظفه في الكتابة ليس laptop وإنما ipad من الجيل الاول لا تمتلك كل مستلزمات الكتابة . أما فيما يتعلق بمضمون المقال فما اوليته اهتماما لانه لا يعنيني..وأخيرا اري

  4. خليلو...

    نقد لنقد/ لا نجد ناقداانگليزيا لا يملك زمام اللغة الانگليزية كذلك الحال مع الناقد الفرنسي وغيرهما من النقاد كل يمتلك ما إمتلكه قرينه الذي ذكرته في صدر التعليق هذا .فلم نحن الكتاب بالعربية نفتقر الى الأساس من مؤهلات الكتابة بالعربية .فحين يكتب احدنا بحثا

  5. علاء خالد

    السيد (خليلو) أراك تعلّق وتنقد غيرك، وكأنك سيبويه اللغة أو خليلها!! وأنت لا تميز في كتابتك همزة الوصل من القطع ( إمتلكه قرينه..) أنموذجاً! فضلاً عن أنّ ما رصده رقيبك هو خطأ لغوي شائع؛ أي متداول، وقد يفوت الباحث والكاتب التركيز على الأخطاء الشائعة؛ لأنه

  6. خليلو...

    شكرا لك عزيزي علاء خالد جزيلا أرجو أن تعذرني فيما أخذته علي من جهلي التمييز بين الهمزتين فإن ما اوظفه في الكتابة ليس laptop وإنما ipad من الجيل الاول لا تمتلك كل مستلزمات الكتابة . أما فيما يتعلق بمضمون المقال فما اوليته اهتماما لانه لا يعنيني..وأخيرا اري

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram