يقول الشاعر الفرنسي "جاك بريفير" في قصيدة له، جاءت على لسان عامل بسيط، فتح صباحاً باب الورشة التي يعمل فيها، فغمرت الشمس بدفئها المكان الذي هو فيه:" أليس من العار أن يذهب جهدُ يوم جميل كهذا إلى رب عمل". استحضرتُ البيت المعبّر هذا وانا أتطلعُ بين الاشجار في الحديقة، وما بعدها في البستان الذي يلفُّ المنزل، إلى ما اخضرَّ وأزهر منها وتفتح وطابت ريحُه، وأنا انظر إلى السماء الدافئة التي بدأت تجمع السحب البعيدة لتعيدها إلينا حياة وطمأنينة، إلى الشمس وهي تزاور خجلى من عريها بين السعف، إلى الطبيعة بكل أسرارها من حولي وهي تندفع يافعة، شبعانة، ريّانةً. تحسست ذلك كله في محاولة لإبعاد شبح السياسة وزعامتها في العراق، ولكي لا يتسخ يومي الجميل هذا بأحدهم.
إذا كانت الاديان ووسائل التعليم والتهذيب والعلوم والايديولوجيا بما فيها ثورة الاتصالات غير قادرة على منحنا المعاني الأولى للسعادة فحري بنا أن نبحث عنها في غير ذلك. علنا نجدها في الازمنة المهملة مثلاً، أو في الامكنة العتيقة، في الكتب والحيطان حيث تصقلها الشمس كل يوم، في أحرف النور اللينة التي تتركها الأقمار على الاوراق، أو في الاشياء البسيطة التي حولنا. أنا وجدت ضالتي في كل الاشياء البسيطة هذه، بعيداً عن الصخب والأماني المعطلة ونفاجة البعض في التسطيح أو التهويل، سأقول مع العظيم ريتسوس: حين أموت لن تجدوني، إنما ابحثوا عني في الاشياء التي حولي. كانت منضدة الكتابة التي يجلس عليها كل يوم مليئة بالمحار والقواقع والاحجار والحيوانات المحنطة والمخطوطات وأقلام الحبر والمنسوجات واللقى والتحف النادرة.
انا، أجد سعادتي في أشياء قد تبدو تافهة للبعض. فهي تبدأ عند أول خيط للنور يتسلل من الستارة إلى الغرفة حيث أنام، وتبلغ بعضا من معانيها ساعة اخرج من الحمّام وقد حلقت ذقني، أما إذا وضعت قطرات من ماء الكلونيا(أحب ماركة فرنسية قديمة شهيرة اسمها بومبيا)أو هي(عماطوري) كما يسمّيها قدماءُ البصريين. وتتجاوز سعادتي مداها التقليدي بعد أن افلح في قلع شعرة بيضاء أجدها نبتت في حاجبي، هكذا كأنني لعبت بخارطة العمر وتمكنت من الرجوع بها إلى الشباب. ولا أبخس حق السعادة عندي حين أطفئُ مصباحا وجدت انتفاء الحاجة لنوره، وقد غمرت الشمس الدار، أن أسدَّ حنفية تركت مفتوحة في الليل وقد نفد الماء في الانابيب وعاد، كذلك تكون سعادتي في ترتيب أحذية الاولاد عند عتبة البيت، بعد عودتهم من المدرسة، وفي نقل حقائبهم من الصالة الى غرفهم. ومثل ذلك أجدها في قيامي بإعداد الفطور الصباحي ثم النداء على زوجتي ومن ظل في البيت ليشاركونني عليه. السعادة ان تفتح الثلاجة وتجد انهم تركوا لك قطعة من كعكة صنعوها في الليل ولم ينسوا حصتك منها.
امس وخلال تجوالي في البستان، وجدت أنَّ البعض من الاشجار التي كنتُ ظننتها ماتت بفعل الماء المالح، الذي اجتاح البصرة بداية شهر ايلول الماضي، لمّا تزل تنبض فيها الروح، دونت منها وهي تتنفس ما ظل في وريقاتها من خضرة وينع. يا لسعادتي وأنا اصغي للدم الأخضر وقد تدفق عالياً في الساق البني، ومثل من عثر على كنز رحت أزيح الاعشاب التي حواليها، أقلّم ما تيبّس واصفرَّ من اغصانها، حاولت أن أبعد عنها كل ما يذكّرها بالجفاف واليبس والموت. وفي سورة من الذهول والسعادة وجدت أنَّ حفيدي الذي تبعني قد علقت بحذائه الاطيان وتشابكت حوله الحلفاء حتى افلتت الحذاء عن قدمه الحمراء الصغيرة. أتعلمون ما السعادة؟ السعادة ان تمسك حذاء حفيدك وترفع الاطيان عنه ثم تعينه على ارتدائه، وأن تحمله بين يديك أو على ظهرك وتتخطى به السواقي وعيدان الحلفاء ليسبقك إلى البيت.
شيءٌ من السعادة
[post-views]
نشر في: 3 نوفمبر, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
ابن البصره الحبيبه
ما اسعدك ايها البصري العاشق لبصرتنا الرائعه رغم الخراب الذي الم بها منذ عدةعقود من النظام السابق الى النظام الحالي مع التحيات لك ولبصرتنا الرائعه بصرة السياب والفراهيدي من ابنها الزي غادرها الى بغداد في عز مجدها ويعود اها بين وقت واخر
ابن البصره الحبيبه
ما اسعدك ايها البصري العاشق لبصرتنا الرائعه رغم الخراب الذي الم بها منذ عدةعقود من النظام السابق الى النظام الحالي مع التحيات لك ولبصرتنا الرائعه بصرة السياب والفراهيدي من ابنها الزي غادرها الى بغداد في عز مجدها ويعود اها بين وقت واخر