TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حين استقبلني فيلاسكيز وودعني غويا

حين استقبلني فيلاسكيز وودعني غويا

نشر في: 6 نوفمبر, 2015: 09:01 م

كيف للفن أن يغير حياتنا ويسير بها الى الأبد نحو مناطق أكثر اشراقاً ومتعة وسمواً. وكيف نمضي نحن بمحبة ولهفة نحوه كمن يسير باتجاه حبيبة كانت غائبة أو لملاقاة حدث سعيد ومهم. ياللجمال الذي نلمسه بأيدينا كل يوم، وياللضوء الذي ينير أرواحنا ويغسل ذائقتنا. فرحنا ينبغي أن يكون عظيماً، وواجب علينا أن نشكر كل يوم هؤلاء الأساتذة الذين تركوا لنا هذا الأرث المذهل ومضوا نحو ضوء الخلود وهم يصنعون تاريخهم الشخصي وتاريخ بلدانهم التي تفخر بهم وبأنجازاتهم المدهشة. ومن اللائق أيضاً أن نشير بامتنان الى الأشخاص والمؤسسات التي بنت هذه المتاحف وجمعت بين قاعاتها هذه الأعمال المهمة والأخّاذة لتكون قبلة لعشاق الفن ومريديه. ما أروعهم وهم يهيئون لنا عصارة العبقريات على طبق من ذهب ليقدمونه لنا بعد ذلك بكل أيثار ومحبة وسهولة.
هذه الأفكار وغيرها من التفاصيل كانت تملأ رأسي وأنا أسير تحت شمس الخريف في مدينة مدريد وأمضي باتجاه متحف البرادو العظيم. اقتربت من الجهة اليمنى للمتحف فإذا بتمثال كبير ينتصب أمامي، تمثال برونزي داكن لرجل يجلس بهيبة وأناقة واضحة وهو يمسك باليت مزج الألوان وينعكس ظله على جانب الحديقة المجاورة، أتأمله جيداً وأقرأ الاسم المثبت على القاعدة، فإذا هو للرسام العظيم فلاسكيز، أشعر بارتياح كبير وسعادة لذيذة ممزوجة بدفء أشعة شمس أيلول وخشخشة أوراق الأشجار تحت أقدامي.
يالها من بداية! وهل هناك أكثر دهشة من ان تبدأ يومك بالتطلع الى فيلاسكيز وأنت تهم بالدخول الى المتحف؟ لكني حين دخلت، احترت من أين أبدأ وأين أنتهي؟ في مثل هكذا متحف تشكل قاعاته وجدرانه الممتدة بلا نهايات، أحجية أو متاهة مرصعة بنجوم وجواهر متلألئة، هي هذه اللوحات التي تشغله وتجعله كنزاً حقيقياً وسط مدينة مدريد، بل تاج المتاحف كلها برأيي الشخصي لأنه باختصار يحتوي على ستة آلاف عمل فني نادر ونفيس بين ثنايا قاعاته مترامية الأطراف. قضيت يوماً كاملاً في المتحف أتنقل من قاعة غويا الى قاعة فيلاسكيز وأخرج من مجموعة موريلو نحو صالة الجريكو. كأنني أزور مجموعة من المتاحف في بناية واحدة، حيث تُعرض هنا 114 لوحة للفنان غويا و90 لوحة للفنان روبنز و50 لوحة للفنان فيلاسكيز، إضافة الى أعمال ريمبرانت وروفائيل وبوتوشيلي وتيتيان وكارافاجيو وآخرين.
يوماً كاملاً من الصباح الى المساء وأنا أتطلع بدهشة عاشق الى هذه الكنوز والنوادر، ولم تقطع تطلعي سوى استراحة صغيرة لاحتساء القهوة في مطعم المتحف، خففت من خلالها بعض التعب الذي انتابني بسبب ساعات الوقوف والتنقل بين الأروقة الواسعة.
أخرج من المتحف محملاً بمشاهدة معجزات الفن التي حاولت في مرات كثيرة أن أقترب منها أكثر من الحد المسموح به خفية من أعين الحراس. أخرج لضوء الطبيعة ليتلقفني نسيم الحديقة المجاورة وزرقة سماء المدينة التي ينبثق في فضائها تمثال برونزي مرتفع بشكل واضح لا تخطئه العين، تمثال ظهر فجأة أمامي، يمثل رجلاً يقف بكبرياء وثقة وأناقة. أقترب منه لأقرأ الاسم فتخرج مني الكلمات ممزوجة بضحكة مسموعة ... انه غويا العظيم ينتصب هنا لوداعي بعد أن استقبلني تمثال فلاسكيز في البداية. يالها من مصادفة وياله من موعد تشيكيلي خالص مع رسامَين أعشقهما وأقدِّر بروح الرسام التي احملها ما قاما به من معجزات وتأثير على تاريخ الفن كله.
أُحيي (غويا) وأمضي وسط شوارع مدريد الجميلة وأنا عارف لقيمة ما رأيت. أسير وسط المدينة الهانئة أبحث عن مقهى مناسب أحتسي فيه شيئاً. أختار ركناً صغيراً في مقهى رسمت على واجهته لوحات تحاكي أعمال تولوز لوتريك وأطلب فنجان كاباتشينو. لا أبالي بالرغوة البيضاء للشراب الساخن وهي تترك خطاً فوق شفتي، أبتسم مثل ولد كبير حيث يمتزج طعم الكاباتشينو مع نشوة اللوحات التي هِمْتُ بها قبل قليل، وخيالي يعود بي من جديد نحو المتحف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram