استرجع اليوم تفكيرا قديما حول لغتنا العربية وهي عندي شهية لذيذة فاخرة. ان سحرها هذا لا ينفي انها لغة جرى استخدامها في اشياء يتعلق معظمها بإشعال النزاعات، لا فضها وتسويتها والدعوة الى السلام واللاعنف. ولذلك فان القاموس المتاح في رؤوسنا لا يمنح المرء، حين يندلع اي نزاع، سوى ثلاث او اربع قواعد للتفاوض والتعامل، وحين يمد المرء يده في جيبه ليستعين بقاعدة اضافية تضمن المطاولة والمناورة والاقناع، سيجد جيوبه خالية من الصياغات اللغوية المناسبة مثل خزينة تاجر مفلس. وحينها لن يكون معقولاً ان يجلس بصمت على طاولة التفاوض، فيستمر بالكلام ولكن بحدة هذه المرة، ولا يبقى امامه سوى الاستفادة من خزين التشاتم والتلاعن والتحريض ونهاية ذلك معروفة، سيوف تعانق سيوفاً، ومدافع تصرخ في وجه مدافع.
ليس العيب في اللغة طبعا، بل في اننا لم نتلق التدريب الكافي على تطوير فن الكلام بما يتناسب مع ممكنات التسوية الحياتية، بالضبط كما اننا لم نمتلك التدريب الكافي على صناعة محرك او تشييد ناطحة سحاب.
وبسبب نقص خبرتنا في فهم ضرورة التفاوض، نفقد الصبر ونسخر من المفاوضين الاجانب، ونقول بسخرية ان الاجانب لا يملون من الكلام! بينما نحن نمل بسرعة، ونضيق ذرعاً، ونحب "التمسك بالمبادئ وعدم المساومة" فنهرع الى القتال، ونغطس في الدم، ونتذوق خسارات لا تنقطع.
التاريخ اذا تذكرناه كدرس لا كملحمة وبكائية، سيعلمنا الشك في القدرة الحالية لقاموس التفاهم. وهو شك حميد يمكن ان يشجعنا على البدء بالتدرب على اداء اكثر جلادة وصبراً. وهو صبر لا يقل في اهميته ومعناه عن صبر المحاربين تحت وابل القصف. وبدون الصبر لن نتمكن من ان نملأ جيوبنا بقواعد تفاوض واقناع ومخارج لمختلف المآزق، لتقليل فرص ان نغرق في الدم كحمقى عاجزين.
الامر الاخر الذي يخطر على بالي اليوم هو ضرورة ان نعتاد على النسبية، لتخفيف تطرفنا، ولنكون مؤهلين اكثر في التعامل مع الخصم. ان كل طرف محلي يقوم بشيطنة خصمه، شيطنة تامة مطلقة وتغيب عنه رؤية النواحي المؤثرة في الخصم والتي يمكن ان تمنحنا فهما اعمق لتجنب مخاطر كثيرة. ان التغافل عن هذه "النسبية"، سيورطنا في التمادي، وسيجعل الجزء الشرير من خصمنا، يخرب الجزء الطيب فينا. وحينها سنتحول الى قوم بدائيين نرقص فوق جثث بعضنا بسعادة غامرة، تحت مبرر اننا على "حق مطلق" وان المقابل هو "شر مطلق". هذه القناعة هي فتوى إبادة، لا للخصم فقط، بل ابادة الخير في دواخلنا. وحين نتحول الى وحوش فسنأكل كل شيء، القريب قبل البعيد!
هذا النوع من المراجعة، للغة ولمبدأ النسبية في تقييم الخصوم والاعداء، سيساعدنا في ان نتحرك ببطء لنخرج من غابة الغرائز الجامحة، ونحاول ان نلتحق بعالم تستقر قواعده وقوانينه، ويدير صراعاته بالاساليب الاقل كلفة. وهو منفذ للخروج من التخلف السياسي المنتج للموت العام
الخروج من غابة الغرائز
[post-views]
نشر في: 7 نوفمبر, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 2
مهند محمد البياتي
مع الاسف لم نتعلم او نتدرب في مدارسنا و في جامعاتنا على الحوار و ابداء الرأي المعارض او المخالف، و حتى نظامنا الجامعي لاي يسمح للطالب باختيار مدرسيه او مواضيع دراسته، فهو مقيد بكل شئ و لا يعرف غير التلقين و الحفظ و تكرار ما يقوله اساتذته، لذا فقاموس معلوم
مهند محمد البياتي
مع الاسف لم نتعلم او نتدرب في مدارسنا و في جامعاتنا على الحوار و ابداء الرأي المعارض او المخالف، و حتى نظامنا الجامعي لاي يسمح للطالب باختيار مدرسيه او مواضيع دراسته، فهو مقيد بكل شئ و لا يعرف غير التلقين و الحفظ و تكرار ما يقوله اساتذته، لذا فقاموس معلوم