لم تكن القراءة الثقافية لأي منجز ابداعي الاّ ممارسة لكشف المستور وإثارة الانساق المضمرة (في الاغلب) ، وذلك لأن الاعلان عن خفايا النص ، هو الاعلان عن التوصلات الجمالية /المعرفية التي تتمتع بمزايا تحليلية خاصة ،ولعل فعل القراءة وطريقة انسراحها بتداولات
لم تكن القراءة الثقافية لأي منجز ابداعي الاّ ممارسة لكشف المستور وإثارة الانساق المضمرة (في الاغلب) ، وذلك لأن الاعلان عن خفايا النص ، هو الاعلان عن التوصلات الجمالية /المعرفية التي تتمتع بمزايا تحليلية خاصة ،ولعل فعل القراءة وطريقة انسراحها بتداولات فنية مختلفة في ظل طروحات ما بعد البنية الكتابية ، يفتح مضمار ما هو مألوف ليعيد انتاجه وفق ضرورات مدروسة في ميدان النقد الثقافي ، مع ان العديد من اصحاب الشأن في هذا المجال يسمونه بـ(الكشف) ، اذن ثمّة ما هو ضامر وغير معلن ، او هو عملية استيلاد من كينونة البنية الثابتة (النص الادبي) ، ومن ثم يقف النقد الثقافي بجوار المتن القرائي مع النصوص الاخرى ، او ( ان نضيف القراءة الثقافية لتكون واحدة من مستويات الجهد القرائي التي يقدمها الناقد الادبي ، وبذلك ينضوي النقد الثقافي تحت مظلته ، ويتماهى معه ، ليصبح واحداً من مآلات أفقه القرائي ).
وحين نركز في مفتتحنا هذا عن النقد الثقافي وما يحمله من سمات خاصة وتداول خاص ، فإن جلّ اهتمامنا يقف عند منطقة مهمة من مناطق الابداع ، الا وهو نقد الشعر ثقافياً ، وبالتحديد ما جاءت به تجربة الشاعر بدر شاكر السياب ، بوصفها واحدة من أهم التجارب الشعرية المعاصرة التي لم تأخذ نصيبها الكافي في هذا المجال نقديا ..
من ذلك ،( يصلح السياب نموذجاً لقراءة ثقافية خصبة تتعدد انشغالاتها ، لتتعدد معها التوصلات التي تنجزها )(2)، ولوجود الموضوعات البارزة في المضمون الشعري لديه ، فإن رؤيا الاختيار والوقوف على واحدة منها ، يعود للعمق الشعري الكبير في تجربته ، مع ابراز الثيمات الواضحة في شعرية السياب ومنها ( الموت ، الاسطورة ،الهاجس العاطفي ، الهاجس الوطني ، الهاجس الاغترابي ، وغير ذلك ) ، فقد امسكنا بواحدة منها لنطبقها ونعمل عليها اجرائياً ، الا وهو الهاجس الاغترابي ، لحضوره وبروزه في مناطق عديدة في قصائده ..
ما تستدعينا آليات الكتابة عن تجربة السياب (ثقافياً) ، تلك التي تقف على مساس مباشر مع بعض الخصوصيات المحيطة بتكوينه الذاتي والاجتماعي ، ومحاولة الخروج من شحناته الاغترابية من الداخل واخراجها عن طريق بنية اللّغة الشعرية وقصدية المعنى ، او إلباس القصيدة ثوب الانفعالات لتعطي شكلاً جديداً في اطارها العام ، فحالة التوتر ولدت عنده حالة الاغتراب ، فكانت شعريته بالشكل الذي ظهرت عليه ، تضاف الى ذلك ، التحولات النسقية العميقة التي ينطوي على غرارها قراءة السياب قراءة دقيقة ، منها :
1ـ هامشية الأماكن التي ولد فيها وسكنها وعاشها .
2ـ تحولاته الآيديولوجية وانفعالاته (اللامتمركزة).
3ـ تعايشه المكبوت مع بيئته وحرمانه العاطفي .
كل ذلك لم تظهره ردود افعاله بالقدر الذي ظهرت عليه في نصوصه ، ولعل هذه النقاط التي اشرنا اليها هي بحد ذاتها انساق ثقافية مضمرة ، جرّدت في لحظة تدوين لتسكن القصيدة ، وتصبح نصوصا ساكنة في طيات اللّغة .
ومثلما قرأنا تجربة السياب كواحدة من التجارب الشعرية المهمة في العالم العربي ، فإن علينا وبفعل ما جاءت به المفاهيم النقدية الحديثة (الآنية والمعمول بها حاضراً) ، ان نعود لقراءة العوامل التي ساعدت الشاعر على تقديم مشروعه الشعري ، فالمسألة بهذا الشكل تنطوي على كشوفات دقيقة لسلوكيات مناهضة للفعل الشعري لدى الشاعر ، منها المؤثرات الاجتماعية والنفسية والمكانية ، كلها تساعد على طبيعة الممارسة الابداعية وابراز ملامحها .
ان اعادة قراءة السياب ثقافياً ، هي اعادة قراءة أبوة ناهضة باتجاه استعادة الهيبة الواعية والمؤسسة لفعل ثقافي منسرح على مجتمع كامل (هو المجتمع العربي ) ، وان كانت صناعته الشعرية تعد مغامرة جريئة وفق ما تركته القصيدة العربية عبر قرون من ثوابت تاريخية معروفة ، لذا ، كان باندفاعاته الكبيرة وهاجسه الذاتي ، قريبا من تلمسات احاسيس الآخر بتجلياته النصية التي هي من فعل الاعلان عن وجود خطاب نصي جديد ، او ان (اعادة قراءة السياب ثقافياً انصاف له ، واحسبه جوهر الانصاف ان نحتفي به بعد خمسين عاماً ، وبطريقة تؤكد فاعلية ما تركه من مغامرة شعرية وجمالية مست صلب صناعتنا الشعرية العصية على التغيير ، والتي عبّر من خلال منجزها عن اندفاعه باتجاه التبشير بالموت الرمزي للشكل الشعري العربي التقليدي .).
السياب ومنذ نزعته التجديدية ، كانت تسيره عوامل انفعالية حادة تتمحور في لحظة من لحظاته الى حالة اندفاع وتمرد واصرار لجعل القصيدة مشروعا اسقاطيا ، فجاءت شعريته مملوءة بكل هذه المؤثرات ( تلك التي وجدها في المعطى الشعري التصويري والنفسي عند شعراء الرومانسية ، وعن اصحاب نزعات سوداوية تماثل حلته النفسية )(4)، لتكشف عن حقيقة اغترابه القسري الذي وجد نفسه فيه ، من ذلك تطالعنا قصيدته (انشودة المطر ) في المقطع الذي يقول :
أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر/ وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر/ وكيف يشعر الوحيد بالضياع/ بلا انتهاء ـ كالدم المراق ـ كالجياع/ كالحب ، كالاطفال ، كالموتى ـ هو المطر .
تتضح شحنات الاغتراب في المقطع هذا ، من خلال مشهدية الصورة الشعرية (للمطر الذي يبعث الحزن) ، والشعور هو مؤثر نفسي وتعامل استجابي للحالات التي يمر بها كل انسان . وبدر شاكر السياب ، يكرس في شعريته ثيمة الانفعال المعلن او الخفي من خلال تكراراته الملحوظة والمبينة فـ( الضياع / الدم المراق / الجياع / الموتى )، مرادفات لمضمون المعنى الشعري والتدفق الادائي لتكريس احساسه العميق ..
من زاوية اخرى ، أصرّ السياب على تقديم منجز شعري معبر عن ميوله العاطفي ومواقفه الانشدادية مع الآخر/ (المرأة) ، بالطريقة التي امسكنا اشتغالاته فيها ، فكانت العديد من قصائده المحمومة توضح (اشتهاءاته)المعلنة والمنكسرة داخل المضمون الشعري ، بمعنى انها نص لغوي فحسب ، والدافع في تدوين احساساته ، شعوره الاغترابي المبين ، نقرأ ما كتبه في قصيدته (اساطير ) عن ( لميعة ):
ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وامطار/ ولندن مات فيها اللّيل ، مات تنفس النور/ رأيت شبيهة لك شعرها ظلم وانهار/ وعيناها كينبوعين من غاب من النور
لعل النزعة الانفعالية البائنة هنا ، تبرهن عن رغبة الشاعر في وصف حالته العاطفية الشديدة وشعوره الاغترابي بفقدان الآخر (الحبيب)، فلم تأت العبارات الشعرية للمشهدية المرسومة وادوات التشبيه والكناية ، الاّ من بؤرة الدافع الانفعالي /العاطفي ، وكثيراً ما تمتعت اسلوبيته في هذا الجانب ..
وكذلك نقرأ في قصيدة (سوف امضي) :/ سوف امضي اسمع الريح تناديني بعيداً في ظلام الغابة اللّفاء .. والدرب الطويل / يتمطى ضجراً ، والذئب يعوي ، والأفول/يسرق النجم كما تسرق روحي مقلتاك/ فاتركيني اقطع اللّيل وحيداً/ سوف امضي فهي ما زالت هناك ..في انتظاري
ويأتي المقطع الشعري هنا ، على درجة كبيرة من التماثل الانفعالي وجدلية الحس الغنائي الطافح على بنية الجملة الشعرية ، وحين نمسك بمضمون الشاعر وإثارة المعنى الذي اشتغل عليه ، تبرز بعض الانساق التي نحن بصددها ، وهي من آليات القراءة الثقاقية ، ومن خلال الفعل الاستقبالي (سوف)، نمسك بالمنولوج المتناظر مع (امضي)/ (اسمع) / (اتركيني) / (في انتظاري) ، لنجد السياب في كل ذلك يعلن عن سماته الاغترابية ، حتى في حالة التفرد (فاتركيني اقطع اللّيل وحيداً)، وهو في حد ذاته جدل موحش واسقاط لطالما ركز عليه في مناطق كثير في تجربته ..
ونقرأ في قصيدة (اللّقاء الاخير ):/ يا همسة فوق الشفاه/ ذابت فكانت شبه آه/ يا سكرة مثل ارتجافات الغروب الهائمات/ رانت كما سكن الجناح وقد تناءى في الفضاء/ غرقى الى غير انتهاء/ مثل النجوم الآفلات/ لا لن تراني لن اعود
وتحت توصيفات شعرية مجازية ، ورؤيا الشاعر المشحونة برومانسية مضببة ، يقف الاغتراب تعبيرا عن موقفه تجاه الآخر ، فقد استخلص عن طريق اداءات شعرية معبرة عن هواجس انفعالية ، فكانت ((الهمسة الذائبة فوق الشفاه ، وشبه الـ(آه) )، لـ(السكرة وارتجافات الغيوم) ثم (النجوم الآفلات )، هي لغة تعبيرية باتجاه وصف الحالات المنفعلة لدى السياب ..
تأخذنا شعرية السياب الى الامساك بالمكونات السوسيو ثقافية ، تلك التي لها انعكاس على البيئة وعلى المقومات الاجتماعية ، تظهر امامنا علاقات حضورية للانفعال الذاتي ، ما يجعل النص مشحون بآلية اغتراب ، وتأثره على (أناه)، ولم تكن شخصية الشاعر بعيدة عن نصه ، ولنأخذ مثلا حالة فقدانه الابوة المبكرة حين نقرأ في (انشودة المطر ):
كأن طفلاً بات يهذي قبل ان ينام/ بأن أمَّه ـ التي افاق منذ عام فلم يجدها ، ثمَّ حين لجَّ في السؤال ../ قالوا له : بعد غدٍ تعود/ لا بد أَن تعود/ وان تهامس الرفاق أنَّها هناك/ في جانب التل تنام نومة اللّحود ..
ان الحافز الكبير الذي جعل الشاعر يستعيد وعيه الاول ، هو حافز نفسي بامتياز ، مثلما فَعَل في مناطق اخرى حين استعاد الأمكنة عبر ذاكرة ذهنية وهيمنة لغوية ومهارة شعرية عميقة ، فجميع هذه الاسقاطات انطوت على شعرية تعبيرية (بعيداً عن فتوحاته للقصيدة العربية)، ما أود الاشارة اليه ، ان كل هذا الهوس والشدّ ، شكل عنده نصاًشعرياً..
ككل، توصلنا من خلال قراءة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب ، الى قراءة متمحورة بثيمة بارزة وواضحة في مضمونه الشعري (ثيمة الاغتراب) ، ان الفعل الثقافي وانفتاحاته على الانساق غير المعلنة وغير الفاعلة ، او التي تحتاج الى توصلات وتحليللات عميقة ـ كما ذكرنا ـ ، يجب ان يأخذ مساره في الجانب التطبيقي / الاجرائي ، وان الكشوفات التي استولدتها القراءة النقدية الثقافية المعاصرة ، لا بد من ابرازها .