TOP

جريدة المدى > عام > هاجس الاغتراب..قراءة ثقافية في شعرية السياب

هاجس الاغتراب..قراءة ثقافية في شعرية السياب

نشر في: 9 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

لم تكن القراءة الثقافية لأي منجز ابداعي الاّ ممارسة لكشف المستور وإثارة الانساق المضمرة (في الاغلب) ، وذلك لأن الاعلان عن خفايا النص ، هو الاعلان عن التوصلات الجمالية /المعرفية التي تتمتع بمزايا تحليلية خاصة ،ولعل فعل القراءة وطريقة انسراحها بتداولات

لم تكن القراءة الثقافية لأي منجز ابداعي الاّ ممارسة لكشف المستور وإثارة الانساق المضمرة (في الاغلب) ، وذلك لأن الاعلان عن خفايا النص ، هو الاعلان عن التوصلات الجمالية /المعرفية التي تتمتع بمزايا تحليلية خاصة ،ولعل فعل القراءة وطريقة انسراحها بتداولات فنية مختلفة في ظل طروحات ما بعد البنية الكتابية ، يفتح مضمار ما هو مألوف ليعيد انتاجه وفق ضرورات مدروسة في ميدان النقد الثقافي ، مع ان العديد من اصحاب الشأن في هذا المجال يسمونه بـ(الكشف) ، اذن ثمّة ما هو ضامر وغير معلن ، او هو عملية استيلاد من كينونة البنية الثابتة (النص الادبي) ، ومن ثم يقف النقد الثقافي بجوار المتن القرائي مع النصوص الاخرى ، او ( ان نضيف القراءة الثقافية لتكون واحدة من مستويات الجهد القرائي التي يقدمها الناقد الادبي ، وبذلك ينضوي النقد الثقافي تحت مظلته ، ويتماهى معه ، ليصبح واحداً من مآلات أفقه القرائي ).

 

 

وحين نركز في مفتتحنا هذا عن النقد الثقافي وما يحمله من سمات خاصة وتداول خاص ، فإن جلّ اهتمامنا يقف عند منطقة مهمة من مناطق الابداع ، الا وهو نقد الشعر ثقافياً ، وبالتحديد ما جاءت به تجربة الشاعر بدر شاكر السياب ، بوصفها واحدة من أهم التجارب الشعرية المعاصرة التي لم تأخذ نصيبها الكافي في هذا المجال نقديا ..
من ذلك ،( يصلح السياب نموذجاً لقراءة ثقافية خصبة تتعدد انشغالاتها ، لتتعدد معها التوصلات التي تنجزها )(2)، ولوجود الموضوعات البارزة في المضمون الشعري لديه ، فإن رؤيا الاختيار والوقوف على واحدة منها ، يعود للعمق الشعري الكبير في تجربته ، مع ابراز الثيمات الواضحة في شعرية السياب ومنها ( الموت ، الاسطورة ،الهاجس العاطفي ، الهاجس الوطني ، الهاجس الاغترابي ، وغير ذلك ) ، فقد امسكنا بواحدة منها لنطبقها ونعمل عليها اجرائياً ، الا وهو الهاجس الاغترابي ، لحضوره وبروزه في مناطق عديدة في قصائده ..
ما تستدعينا آليات الكتابة عن تجربة السياب (ثقافياً) ، تلك التي تقف على مساس مباشر مع بعض الخصوصيات المحيطة بتكوينه الذاتي والاجتماعي ، ومحاولة الخروج من شحناته الاغترابية من الداخل واخراجها عن طريق بنية اللّغة الشعرية وقصدية المعنى ، او إلباس القصيدة ثوب الانفعالات لتعطي شكلاً جديداً في اطارها العام ، فحالة التوتر ولدت عنده حالة الاغتراب ، فكانت شعريته بالشكل الذي ظهرت عليه ، تضاف الى ذلك ، التحولات النسقية العميقة التي ينطوي على غرارها قراءة السياب قراءة دقيقة ، منها :
1ـ هامشية الأماكن التي ولد فيها وسكنها وعاشها .
2ـ تحولاته الآيديولوجية وانفعالاته (اللامتمركزة).
3ـ تعايشه المكبوت مع بيئته وحرمانه العاطفي .
كل ذلك لم تظهره ردود افعاله بالقدر الذي ظهرت عليه في نصوصه ، ولعل هذه النقاط التي اشرنا اليها هي بحد ذاتها انساق ثقافية مضمرة ، جرّدت في لحظة تدوين لتسكن القصيدة ، وتصبح نصوصا ساكنة في طيات اللّغة .
ومثلما قرأنا تجربة السياب كواحدة من التجارب الشعرية المهمة في العالم العربي ، فإن علينا وبفعل ما جاءت به المفاهيم النقدية الحديثة (الآنية والمعمول بها حاضراً) ، ان نعود لقراءة العوامل التي ساعدت الشاعر على تقديم مشروعه الشعري ، فالمسألة بهذا الشكل تنطوي على كشوفات دقيقة لسلوكيات مناهضة للفعل الشعري لدى الشاعر ، منها المؤثرات الاجتماعية والنفسية والمكانية ، كلها تساعد على طبيعة الممارسة الابداعية وابراز ملامحها .
ان اعادة قراءة السياب ثقافياً ، هي اعادة قراءة أبوة ناهضة باتجاه استعادة الهيبة الواعية والمؤسسة لفعل ثقافي منسرح على مجتمع كامل (هو المجتمع العربي ) ، وان كانت صناعته الشعرية تعد مغامرة جريئة وفق ما تركته القصيدة العربية عبر قرون من ثوابت تاريخية معروفة ، لذا ، كان باندفاعاته الكبيرة وهاجسه الذاتي ، قريبا من تلمسات احاسيس الآخر بتجلياته النصية التي هي من فعل الاعلان عن وجود خطاب نصي جديد ، او ان (اعادة قراءة السياب ثقافياً انصاف له ، واحسبه جوهر الانصاف ان نحتفي به بعد خمسين عاماً ، وبطريقة تؤكد فاعلية ما تركه من مغامرة شعرية وجمالية مست صلب صناعتنا الشعرية العصية على التغيير ، والتي عبّر من خلال منجزها عن اندفاعه باتجاه التبشير بالموت الرمزي للشكل الشعري العربي التقليدي .).
السياب ومنذ نزعته التجديدية ، كانت تسيره عوامل انفعالية حادة تتمحور في لحظة من لحظاته الى حالة اندفاع وتمرد واصرار لجعل القصيدة مشروعا اسقاطيا ، فجاءت شعريته مملوءة بكل هذه المؤثرات ( تلك التي وجدها في المعطى الشعري التصويري والنفسي عند شعراء الرومانسية ، وعن اصحاب نزعات سوداوية تماثل حلته النفسية )(4)، لتكشف عن حقيقة اغترابه القسري الذي وجد نفسه فيه ، من ذلك تطالعنا قصيدته (انشودة المطر ) في المقطع الذي يقول :
أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر/ وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر/ وكيف يشعر الوحيد بالضياع/ بلا انتهاء ـ كالدم المراق ـ كالجياع/ كالحب ، كالاطفال ، كالموتى ـ هو المطر .
تتضح شحنات الاغتراب في المقطع هذا ، من خلال مشهدية الصورة الشعرية (للمطر الذي يبعث الحزن) ، والشعور هو مؤثر نفسي وتعامل استجابي للحالات التي يمر بها كل انسان . وبدر شاكر السياب ، يكرس في شعريته ثيمة الانفعال المعلن او الخفي من خلال تكراراته الملحوظة والمبينة فـ( الضياع / الدم المراق / الجياع / الموتى )، مرادفات لمضمون المعنى الشعري والتدفق الادائي لتكريس احساسه العميق ..
من زاوية اخرى ، أصرّ السياب على تقديم منجز شعري معبر عن ميوله العاطفي ومواقفه الانشدادية مع الآخر/ (المرأة) ، بالطريقة التي امسكنا اشتغالاته فيها ، فكانت العديد من قصائده المحمومة توضح (اشتهاءاته)المعلنة والمنكسرة داخل المضمون الشعري ، بمعنى انها نص لغوي فحسب ، والدافع في تدوين احساساته ، شعوره الاغترابي المبين ، نقرأ ما كتبه في قصيدته (اساطير ) عن ( لميعة ):
ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وامطار/ ولندن مات فيها اللّيل ، مات تنفس النور/ رأيت شبيهة لك شعرها ظلم وانهار/ وعيناها كينبوعين من غاب من النور
لعل النزعة الانفعالية البائنة هنا ، تبرهن عن رغبة الشاعر في وصف حالته العاطفية الشديدة وشعوره الاغترابي بفقدان الآخر (الحبيب)، فلم تأت العبارات الشعرية للمشهدية المرسومة وادوات التشبيه والكناية ، الاّ من بؤرة الدافع الانفعالي /العاطفي ، وكثيراً ما تمتعت اسلوبيته في هذا الجانب ..
وكذلك نقرأ في قصيدة (سوف امضي) :/ سوف امضي اسمع الريح تناديني بعيداً في ظلام الغابة اللّفاء .. والدرب الطويل / يتمطى ضجراً ، والذئب يعوي ، والأفول/يسرق النجم كما تسرق روحي مقلتاك/ فاتركيني اقطع اللّيل وحيداً/ سوف امضي فهي ما زالت هناك ..في انتظاري
ويأتي المقطع الشعري هنا ، على درجة كبيرة من التماثل الانفعالي وجدلية الحس الغنائي الطافح على بنية الجملة الشعرية ، وحين نمسك بمضمون الشاعر وإثارة المعنى الذي اشتغل عليه ، تبرز بعض الانساق التي نحن بصددها ، وهي من آليات القراءة الثقاقية ، ومن خلال الفعل الاستقبالي (سوف)، نمسك بالمنولوج المتناظر مع (امضي)/ (اسمع) / (اتركيني) / (في انتظاري) ، لنجد السياب في كل ذلك يعلن عن سماته الاغترابية ، حتى في حالة التفرد (فاتركيني اقطع اللّيل وحيداً)، وهو في حد ذاته جدل موحش واسقاط لطالما ركز عليه في مناطق كثير في تجربته ..
ونقرأ في قصيدة (اللّقاء الاخير ):/ يا همسة فوق الشفاه/ ذابت فكانت شبه آه/ يا سكرة مثل ارتجافات الغروب الهائمات/ رانت كما سكن الجناح وقد تناءى في الفضاء/ غرقى الى غير انتهاء/ مثل النجوم الآفلات/ لا لن تراني لن اعود
وتحت توصيفات شعرية مجازية ، ورؤيا الشاعر المشحونة برومانسية مضببة ، يقف الاغتراب تعبيرا عن موقفه تجاه الآخر ، فقد استخلص عن طريق اداءات شعرية معبرة عن هواجس انفعالية ، فكانت ((الهمسة الذائبة فوق الشفاه ، وشبه الـ(آه) )، لـ(السكرة وارتجافات الغيوم) ثم (النجوم الآفلات )، هي لغة تعبيرية باتجاه وصف الحالات المنفعلة لدى السياب ..
تأخذنا شعرية السياب الى الامساك بالمكونات السوسيو ثقافية ، تلك التي لها انعكاس على البيئة وعلى المقومات الاجتماعية ، تظهر امامنا علاقات حضورية للانفعال الذاتي ، ما يجعل النص مشحون بآلية اغتراب ، وتأثره على (أناه)، ولم تكن شخصية الشاعر بعيدة عن نصه ، ولنأخذ مثلا حالة فقدانه الابوة المبكرة حين نقرأ في (انشودة المطر ):
كأن طفلاً بات يهذي قبل ان ينام/ بأن أمَّه ـ التي افاق منذ عام فلم يجدها ، ثمَّ حين لجَّ في السؤال ../ قالوا له : بعد غدٍ تعود/ لا بد أَن تعود/ وان تهامس الرفاق أنَّها هناك/ في جانب التل تنام نومة اللّحود ..
ان الحافز الكبير الذي جعل الشاعر يستعيد وعيه الاول ، هو حافز نفسي بامتياز ، مثلما فَعَل في مناطق اخرى حين استعاد الأمكنة عبر ذاكرة ذهنية وهيمنة لغوية ومهارة شعرية عميقة ، فجميع هذه الاسقاطات انطوت على شعرية تعبيرية (بعيداً عن فتوحاته للقصيدة العربية)، ما أود الاشارة اليه ، ان كل هذا الهوس والشدّ ، شكل عنده نصاًشعرياً..
ككل، توصلنا من خلال قراءة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب ، الى قراءة متمحورة بثيمة بارزة وواضحة في مضمونه الشعري (ثيمة الاغتراب) ، ان الفعل الثقافي وانفتاحاته على الانساق غير المعلنة وغير الفاعلة ، او التي تحتاج الى توصلات وتحليللات عميقة ـ كما ذكرنا ـ ، يجب ان يأخذ مساره في الجانب التطبيقي / الاجرائي ، وان الكشوفات التي استولدتها القراءة النقدية الثقافية المعاصرة ، لا بد من ابرازها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram