(2)
ربما انطوت فكرتي البسيطة على "دعوة" إلى محلية "مستغلقة" في القصيدة العراقية، كما تفهم لأول وهلة، لكنها ليست كذلك.. قد تنطوي على أن تكتسب قصيدتنا "سحنة" عراقية.. والسحنة العراقية متنوعة، ففيها الأشقر الذي يشبه الأوروبي والأسمر البني والأسمر الغامق، بل سحنات تتنوع بتنوع العراق، لكنني لست قومياً، كما أن "وطنيتي" لم تعد كما ألفنا في ثقافة السياسة والآيديولوجيا الشائعة، إنما هي تأكيد على أن الفن ينطلق من محليته ليقنع العالم بجدواه وجدارته في أن يستحق الالتفات إليه، ونجيب محفوظ، عربياً، خير مثال، وهو المواطن المصري الذي لم يغادر القاهرة!، ومثل شعراء وروائيين آخرين من أفريقيا أو أقصى آسيا أقنعوا قراء وخبراء الفن الكتابي (الأدب) في بلاد الفايكينغ ليقروا لهم بالجدارة، ويمنحونهم جائزة نوبل وبينهم عديد المبدعين في قرى ومدن لم يسمع بها أحد من قبل.. إنها مكافأة العالم لهم على محليتهم.
شعراؤنا عراقيون منذ أبي نواس ومن ثم الجواهري وبعض معاصريه، بدر شاكر السياب أيضاً، وزملاؤه، إذ تنبثق عراقيتهم من تلك الملامح اللغوية والأحزان الخاصة، وحتى التوجعات التي اشتهر بها السياب، والبياتي الذي تخلص مؤخراً (قبيل رحيله ببضع سنوات) من واوات العطف المملة، وبعده خمسينيو العراق، محمود البريكان في فلسفة شؤون المدينة (لا الريف) وسعدي يوسف قبل تراجعه الشعري والفكري والأخلاقي.
السبعينيون كانوا "المخضرمين" بين أكثر من جيل، حتى أحلامهم المكسورة كانت ضحية السياسة لا الشعر، لكنهم كتبوا قصائد مهمة حملت أثقال مرحلة ملتبسة اشتبك فيها السياسي بالسياسي، واشتبك الاثنان بالشعري، لكنهم نجوا من ربقة السياسي بنصوص عنيدة زخرت بالتجريب والتنوع والمبادأة.
إن ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي الساحرة هو ما يقال عنه سلاح ذو حدين: فهو وضع الجدل والسجال الشعريين موضع إضافة وتعلم وحوار شعري – شعري مع شعر العالم، أمد قصيدتنا بآفاق غير مسبوقة وصارت قصيدة النثر (رغم صورتها المشوشة) عنوان مرحلة جديدة في السنوات التالية، لكن تلك الوسائل الاتصالية، من جانب ثان، أوهمت الكثير من شعرائنا الشبان باستسهال كتابة قصيدة بلا شخصية، وكأنهم "ينسخون" قصائد غربية مترجمة، حتى بدوا وكأنهم مستشرقون يكتبون عن بيئة غريبة عنهم.
على أن تجربة القصيدة العامية العراقية ليست بعيدة عن الشعرية العراقية في معتركها الحداثي، فمظفر النواب، حتى إغراقه واستغلاقه العامي في مفردة الجنوب العراقي، أسس لقصيدة عامية مختلفة ومبشرة، ومعه علي الشيباني وأبو سرحان (ذياب كزار) وكاظم الكاطع، وأخيرا البصري كامل الركابي، ومن سار على منوالهم. لكن إسفافاً كريها لحق بالقصيدة العامية العراقية وحولها من شعبية إلى شعبوية.
جانب كبير من شعرنا افتقد، ويفتقد، إلى الإصالة بسبب تشوه الشخصية العراقية لأسباب تتعلق بالقمع والصراع الآيديولوجي والازدواجية (أشار لها علي الوردي) والشاعر ليس خارج هذا البيئة المتوترة.
"لقد آن الوقت كي تحتل الأندلس مكانتها في الشعر الإسباني، وقد تحقق ذلك بشخص شاعرها فيديريكو غارسيا لوركا" وفق البروفيسور س. م بورا الذي يواصل "لوركا لم يعر التأمل العميق اهتماما وأنكر دائما أن تكون لديه نظرية في الفن... شعره شعر خالص وعالمه الذي يستقي منه صوره هو من صميم المجتمع الواقعي الذي عاش فيه: بيئته الأندلسية (...) على أن ملامح فن لوركا تحددت بسرعة مذهلة في قصائد الحياة الغجرية (...) وفي الوقت الذي اتجه فيه معاصروه إلى السياسة أو الطبيعة المادية أو قلق الإنسان المتحضر، وجد لوركا معينه في تلك الانفعالات الساذجة والعواطف غير المعقدة عند هؤلاء البسطاء".
"الانفعالات الساذجة والعواطف غير المعقدة" هي جوهر ما عنيته في "محلية" القصيدة العراقية لبلوغ تلك السماوات انطلاقا من مشحوف سومري يغرق.
عراقية القصيدة العراقية
[post-views]
نشر في: 9 نوفمبر, 2015: 09:01 م