لم يكن أحداً من معاصري فنسنت فان غوخ متأكداً من نبوغه الفني وعبقريته الفريدة في الرسم ماعدا شخصين كانا يثقان بذلك الى آخر رمق في حياتهما. الشخص الأول هو تيّو شقيقه الذي ساعده وأحبه وتفرَّغ له وأعطاه كل شيء تقريباً. والشخص الثاني هو فنسنت نفسه الذي كان يعرف مايدور بداخله من صراع حول قيمة لوحاته وتأثيرها وقوتها، هذه اللوحات التي تحدى الجميع من أجلها وكأنها حبيبته وسر وجوده وطريقه الذي سيقوده الى الطمأنينة والسلام الداخلي وسط الفاقة والفقر الذي كان يعيش فيه وعدم الأعتراف الذي يراه في نظرات الآخرين.
باحثاً عن أحلامه الفنية وقيمة وجوده غادر فنسنت قريته الصغيرة (زندرت) في الجنوب الهولندي بأتجاه بلجيكا حيث أستأجر غرفة مع احدى العوائل في قرية (فاسميس) كان يرسم ليلاً ونهاراً وقد قام برسم جميع أفراد العائلة وأعطى للصغار دروساً في الرسم عسى أن تخفف عنه هذه العائلة شيئاً من أجرة الغرفة، في النهاية لم ترق له طريقة معيشته وسط هذه العائلة، ففكر أن يسافر الى العاصمة بروكسل للبحث عن فرصة أفضل ويطور كذلك مهاراته في الرسم أكثر، حين وصل الى هناك باشر بأخذ دروساً فنية لدى يوسف فان سيفردونك من خلال رسم التماثيل الجبسية وبعض الاشياء القديمة التي يضعها له على الطاولة كطبيعة صامتة، لكن لم تمر فترة طويلة حتى بدأ فنسنت يتذمر من طريقة تفكير ورؤية أستاذة ونظرته الى الرسم فغادر المرسم بسرعة. بعد ذلك أكمل طريقه بأتجاه باريس التي حين وصل اليها لم يكن يعرف أحداً من الفنانين حيث كانت الأنطباعية في أوج عظمتها، وهناك تعرف على شاب باريسي رائع هو أميل برنارد الذي لم يكمل عامة العشرين وقتها وكان يرسم بطريقة مدهشة وجديدة، وقد ربطتهما علاقة وثيقة أكدتها رسائلهما المتبادلة فيما بعد، تلك الرسائل التي تجاوز عددها العشرين وهي تتحدث عن الفن والعلاقات وتقنيات الرسم والحياة في باريس ومدن الجنوب الفرنسي.
رغم وجوده في باريس لكن أغلب معارفه وأصدقائه قد أخطأوا في تشخيص عبقريته وفنه وقوته التجديدية التي غيّرت الرسم أبتداءً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أخطأوا في معرفة ما يمكن أن تؤدي اليه أعماله التي سبقهم من خلالها وسبق عصره وكل معاصريه، أخفقوا في ذلك كما أخفق هو في أطلاق الرصاص على نفسه فيما بعد ولم يفارق الحياة مباشرة وبقي فترة من الوقت يصارع الألم حتى رحل بعيداً نحو السماء.
فنسنت الذي كان يبحث طوال حياته هنا وهناك عن غرفة رخيصة الأجرة، يكفي ثمن واحدة من لوحاته الصغيرة الآن لبناء متحف عظيم وبكل المواصفات الحديثة مع ما يحتاجه من معدات وشروط ورواتب موظفين! المفارقة أن أحد الأثرياء اليابانيين يضحك من شدة الحيرة والألم وهو يقول في أحد اللقاءات بأنه قد أشترى الطابق الثالث كاملاً بكل شققهِ في البناية رقم 54 في شارع لوبيك بحي مونمارتر في باريس لأن فنسنت قد عاش هناك في واحدة من الشقق مع أخيه تيّو، لكن الياباني يذكر بأنه قد قام بأكبر خطأ في حياته حيث أشترى الطابق الثالث بينما أتضح فيما بعد أن فنسنت قد عاش في الطابق الرابع.
هكذا تتكرر الأخطاء في كل حياة فنسنت وحتى بعد مماته بسنوات طويلة، أخطاء غلَّفت كل تفاصيل وجوده ورحيله المبكر، أخطاء لا يمكن أن يحتملها أنسان بمفرده مهما كانت قوته وحضور روحه. في المقابل كانت أعماله الباهرة ذات التقنية الساحرة والعبقرية الكاملة هي المعادل الجمالي لكل الأخطاء التي أحاطت بحياته وتقلباتها وسط عالم لا يعرف قيمة وعمق الأبداع ولا يلتفت اليه إلا متأخراً وعندها يكون قد فات الأوان.
إعتراف بالعبقرية، لكن بعد فوات الأوان
[post-views]
نشر في: 13 نوفمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...