حين اقترحت علي صديقتي الشاعرة المغربية علية ادريسي البوزيدي أن التقي طلابها في ثانوية الإمام البخاري، في العاصمة المغربية الرباط، قلقت وترددت ولكنني احتسبت ووافقت.
وخزتني أسئلة عدة: كيف سأختار لغة مبسطة، طفولية، تقارب "ثقافة" أطفال من دون أن تفارق معناها وقصدها؟ وكيف لكهل مثلي أن يثير لدى المراهقين، من البنات والأولاد، ما يكفي من الشغف والإثارة والحوار المنتج؟ وهل ينجح شاعر، مثلي، أن يقنع هؤلاء المراهقين بالتباس حياته وتعقيدات وطنه ومضطربات منفاه؟
ماذا لوخرج عليّ أحدهم شاهراً قبعة "الأمير الصغير" التي تبتلع ثعبانا كما رسمها الفرنسي أنطون أكزوبري؟
لكن لحظة عاطفية لم أحسب حسابها، عندما حاولت أن أنطق بمدخل جذاب، اجتاحتني فلم أستطع إذ اختنقت بدموعي التي تحولت إلى كلمات في الحنجرة والعينين، معاً، لأنني رأيت الطالب عواد ناصر يجلس أمامي، بين الطلاب في الثانوية الجعفرية المسائية للبنين في مدينة الثورة ببغداد السبعينات، من القرن الماضي، ليعبروا عن تضامنهم وتعاطفهم بتصفيق حار أشعلته أكفهم الحكيمة.
ورأيتني طالباً أكبر قليلاً في معهد إعداد المعلمين – بغداد بينما كان أستاذ علم النفس يدحض الفكرة الشائعة عن أن الطفل الصغير مجرد عجينة يشكلها الكبار كيفما يريدون أو أنه ورقة بيضاء يكتب عليها الآباء والمعلمون ما يشاؤون.. بينما الطفل شخصية مفكرة، يحاور ويسأل ولا يصدق بسهولة، خصوصاً ما يلقيه الكبار على مسمعه أو يفعلونه أمام ناظريه.
وهذا ما حدث في ثانوية الإمام البخاري في الرباط، بحضور أستاذتهم الشاعرة البوزيدي وصديقتنا المشتركة الأستاذة سعيدة شريف رئيسة تحرير مجلة "ذوات" الإلكترونية الفكرية والنقدية المرموقة.
كان الطلاب متحمسين للحوار وطرح الأسئلة وتكاثرت الأصابع الصغيرة المرفوعة، بعد مرور دقائق من الإلفة والإثارة، وهناك من طلب السؤال لثلاث مرات أو أربع، حتى اقترحت عليهم أن يتيحوا الفرصة لزملائهم الذين لم يسألوا بعد.
فوجئت، أولا، بعمق أسئلتهم وكأنهم نقاد أدبيون، وثانياً، بلغتهم العربية الفصحى التي جاءت سليمة جدا بلا أي أخطاء، وثالثاً بتلك الطلاقة والعفوية اللتين سالت بهما أفكارهم الكبيرة حول الشعر والكتب والثقافة والوطن والمنفى:
- ما الذي أضافه المنفى لقصيدة الشاعر عواد ناصر المحلية؟
- ما هي أهم الكتب الذي أثرت في حياتك؟
- كيف وجدت الثقافة المغربية؟
- ما هو شعورك أثناء كتابة القصيدة وبعدها؟
- ما سبب اغترابك خارج وطنك؟
- هل أنت فخورك بنفسك؟
كانت مسؤولية عظيمة تلك التي أحسست بها وأنا أجيب على تلك الأسئلة، الصعب منها والطريف، في محاكمة أقامها هؤلاء "الأمراء الصغار" وبحضور شاهدتين هما مدرستهم علية البوزيدي التي تكتب قصيدة سوريالية على طريقتها الخاصة، والأستاذة سعيدة شريف التي ترأس واحدة من أهم المجلات الفكرية الإلكترونية في العالم العربي (ستتحول إلى ورقية قريباً).. وهما شاهدتان لا تعرفان شهادة الزور.
.. ولكي أضفي بعض التوضيحات على كلامي، وأنا أتحدث عن الكتب، طلبت قلما لأرسم على السبورة تلك القبعة المخيفة، قبعة أكزوبري، التي كانت في الحقيقة ثعبانا يبتلع فيلاً! على أنه "من بين الكتب التي سحرتني عندما كنت في سنكم".. الرسمة عرضها أمير أكزوبري الصغير على الطيار الذي تعطلت طائرته وسقطت في كوكب بعيد حيث ظهر له ذلك الأمير الفيلسوف.
أخبرتني الصديقة البوزيدي في اليوم التالي بأن الطلاب سألوها: هل يمكن أن نلتقي بذلك الشاعر العراقي مرة ثانية؟
كنت سعيداً بانطباع أولادي وسعيداً بأهلي الذين اكتشفتهم في المغرب إذ كانوا في غاية النبل والجمال والمحبة والكرم.. شكرا لهم جميعاً.
الشاعر في محكمة أقامها طلاب صغار
[post-views]
نشر في: 16 نوفمبر, 2015: 09:01 م