باشر الفنان الفرنسي (كلت ابراهام) في صيف 2010 بتدشين مشروعه الجمالي الصادم في مدينة فلورنسا ، التي يقيم فيها منذ عشرين عاما ، عبر تلاعبه بدوال إشارات المرور ، والعلامات التعريفية للمدينة ، وتحوير مدلولاتها بما لا يتفق مع أغراضها الطبيعية . وكانت تلك
باشر الفنان الفرنسي (كلت ابراهام) في صيف 2010 بتدشين مشروعه الجمالي الصادم في مدينة فلورنسا ، التي يقيم فيها منذ عشرين عاما ، عبر تلاعبه بدوال إشارات المرور ، والعلامات التعريفية للمدينة ، وتحوير مدلولاتها بما لا يتفق مع أغراضها الطبيعية . وكانت تلك هي المرة الاولى ، ومنذ زمن طويل ، التي يتنبه فيها سكان وزوار هذه المدينة التاريخية ، التي شكلت لقرون ماضية ، مركز النهضة الأوروبية ومهد انطلاقتها الى إعلانات مدينتهم الدالة ، حيث تم تجاوز النظر اليها كنوع من الالغاء بالتكرار او اهمالها بالتعود . ولكنها استيقظت أمامهم من جديد منكشفة على أهمية جمالية وتزيينية (beautification ) .
النقاد من جانبهم ، بخاصة انهم يعيشون قريبا من واحد من اهم متاحف الفنون في العالم ، واقصد متخف اوفتزي ، انصرفوا الى تأويل مشروع كلِت على انه مزحة خفيفة الفن ، او ضربا من ضروب البوب الارت التي لابأس منها ، لكن بعضهم أخذ التجربة على محمل الجد ، وعدها انزياحا جماليا يجب التعاطي معه بموقف نقدي جمالي رصين .
تذكرت كل ذلك ، وانا اقرأ المحاولات الجريئة وغير المتوقعة ، التي تصدى لها فنان مجرب " داخل إطار الحدود المقبولة للتجربة " هو محمود شبّر ، الذي راح يعبث بإشارات مدينة من مثل مدائن العراق ، وتحديدا العاصمة بغداد ، ولكنه لم يعبث هنا بأصول الموجودات الأصلية لهذه العلامات المهملة ، كما فعل كلِت وإنما نقلها الى صالة العرض ، بعد ان أعاد انتاجها جماليا في مشغل سري غير مكشوف للعابرين كما هو الحال مع تجربة الفنان الفرنسي .
ولئن بدت محاولة كلِت تزيينية ذات طابع جمالي ، فان تجربة شبّر كانت مأساوية و تؤشر للخراب العميق في مدننا ، وضياع العلامات الدالة في عوالمها الكارثية التي شكلتها الفوضى وغياب اي موجه سياسي وأخلاقي وثقافي .
وحيث ان مدينة فلورنسا التاريخية ، لم ترتبك للتحريفات الواقعية ، التي اجراها الفنان الفرنسي بسبب من استقرارها العمراني العريق ، فبغداد مثلا ، وكما وردت في دوال محمود شبّر ، كانت تشي بالضياع ، كما كانت طرقها تؤدي الى المجهول .كان شبّر يريد ان يعيد تركيزنا على المهمل بفعل العادة من جهة , ومن جهة اخرى ، كان يختصر الخراب ويكثف قوته . فقد عملت فرشاته بحس عميق على اهانة العلاقة التواضعية للغة ، التي مثلتها الإشارات والإرشادات ، ليجعلها قادرة هذه المرة على توكيد خطاب واحد يتمركز حول الكارثة .
باقتصاد واضح ومعالجات مهارية عالية ، ليست بجديدة على خبرة فنان متمرس ، جاءت هذه الخطوة النادرة ، التي تقدم بها شبر نحونا بمغامرة مفاجئة لمواجهتنا بثقة وجرأة لا يقدم عليها الا من امتلك تلك الروح الشجاعة للفنان ، بوصفه انقلابا على الطبيعة . وهو بذلك لا يحرر تجربته الشخصية من سجن التداولية المستقرة للأعمال الفنية ، وإنما يمنح الفن العربي والعراقي بشكل خاص ، جرعته من الفنون الحديثة ، التي ظل هذا الفن مترددا ازاءها وعلى نحو اجده شخصيا قد تأخر كثيرا . وبظني فانه لو اندفع في المستقبل للأمام بخطوات إضافية قادمة ، مغادرا مركزية الشروط التقليدية والمستقرة للطبيعة التقليدية التي ترافق لعمل الفني ، فانه سيأخذنا الى تخوم جمالية اكثر انسجاما مع روح عصرنا وقيمه الفنية . وانا اثق به وبقدرته على المجازفة وواثق ايضا بروحه المضطربة ومزاجها الحاد ، وولعه بالعمل في المناطق غير الحيادية من الجمال .من داخل أعماله ، أستطيع فقط ان اشيركم الى دور اللون الاسود ، السلاح المطلق بيد شبر في تشتيت استقرارية ألوان اللوحات المرورية وعلاقاتها المتشابكة حروفيا ورمزيا ، والعلامات الدالة الاخرى ، فقد جعل شبر من هذا (اللون ) مادته الرئيسة لاستدعاء الكآبة من المدن المنكوبة الى الجمال . واذا كان لابد من تقعيد تاريخي لهذه التجربة ، فلا يمكنني القول ، الا كونها حادثة تاريخية غير قابلة للنسيان في مسيرة الفن العراقي . سوف نتذكرها على الرغم منا ، مهما اختلفنا على أهميتها ، فهي وبحق ستشكل سابقة لا يمكن قراءة خارطة التجريب في الفن العراقي من دون وضعها في مركز هذه الخارطة .
العافية في الفن ، تلك المحاولة التي تخلصنا من الركود والدوران على أنفسنا ، تأتي دائما من المغامرين الذين لا يخافون النقد . ومحمود شبّر يؤكد لنا انه من بين هؤلاء وبجدارة علينا ان نحييه من اجلها.
الفن كان نائما في إشارات المرور واستيقظ . هذا هو الملخص الجمالي لمعرض محمود شبّر في ارت سبيس - الحمرا في العاصمة اللبنانية بيروت.