عبر الهاتف ..قالت لي بصوت واهن اختلسته من بين فكي غصة مشبعة بالدموع :" أُريد أن أعود ..." احترت كيف أُواسيها ..أأقول لها ان الوطن هو المكان الذي يعيش فيه ابناؤها وانها من دونهم ستظل بلا وطن ..اعرف انها لن تعود فقد تركت حياتها الأثيرة خلفها منذ سنوات بعيدة وحملت أولادها بعيدا لتنقذهم لكنها اكتفت من الغربة بينما اعتادها أولادها ولم يعد البلد الذي غادروه صغارا يعني شيئاً مصيرياً بالنسبة لهم ..
استجمعت شتات صوتها المتهدج لتندلق الكلمات من فمها متسارعة ...قالت : " فجأة ..استيقظت على بقايا حلم لذيذ ..كان المطر ينث قطراته الصيفية على رصيف شارعنا الترابي فتملأ الجو رائحة التراب المبلل التي اعشقها ..كنت اتقافز فرحا مع جاراتي الصغيرات تحت المطر ثم تجلب كل منا (طاسة ) معدنية فنملأها بالتراب المبلل ونقلبها ونحن نهزج :" طاسة يا كمر طاسة ..منو هيه الكمر طاسة "وبعد ان نرفع الطاسات تظهر الاكوام الترابية الصغيرة تحتها وتعتبر صاحبة الكومة الأكثر تماسكا (الكمر) بين رفيقاتها ..
استدركت فجأة وكأنها استيقظت من حلمها اللذيذ لتقول : " كنت (الكمر) دائما وكانت كومتي الترابية الأكثر تماسكاً ..كيف سمحت لها ان تصبح هشة وتتفتت كلياً ؟" تذكرت أين هي الآن حين شاهدت تساقط الثلج من خلف زجاج نافذتها .. عادت لتقول :" أُريد العودة ..أنا بحاجة الى الحنان ..غرست قدمي في ارض الغربة في زمن صار القتل فيه فعلا عاديا ..خشيت ان تستلب مني حياة احبتي لكني فقدت لحظاتي الثمينة ..كل لحظة هي شيء فريد لن يتكرر ابداً لكني تركتها وتعلقت بأهداب الحياة في بلد لا أفهم من سكانه سوى انهم ساعات مضبوطة ..ظلت احلام العودة تراودني ..أشم رائحة تراب شارعنا وأذوب جوعا لقدر والدتي وشوقا لسماع صوت الاطفال وهم ينشدون نشيد تحية العلم ..
حاولت ان تختبر أولادها قبل سنوات فاصطحبتهم في زيارة الى بلدها بعد زوال الصنم الذي ابعدها عنه ..صدمتها آرائهم الساخرة في وطنها الاثير ..انه عبارة عن اكوام نفايات وتخلف وغياب حضاري في نظر اولادها ..قالت لهم .:"ليس العراق كما ترونه اليوم "..وحاولت ان تشرح لهم تاريخه وحضارته وكيف تكالب عليه الأعداء والطامعون ليحولوه الى ما اصبح عليه لكنهم لم يقتنعوا بذلك فاذا كان هناك انسان حقيقي لابد ان تبنى الأوطان ..قالوا لها انهم غير مستعدين للعيش مع اناس غير حقيقيين لا يعبأون ببناء وطنهم ...قالت لهم :" لطالما حاول العراقيون البناء لكن هناك الكثير من المعاول حولهم ..." ..لم يجدوا في كلامها ما يغريهم بالعودة فقد وجدوا الانتماء الذي تتحدث عنه والدتهم في البلد الذي لم يسلبهم شيئا من انسانيتهم ..
لم أُقاطعها ابدا وهي تقول بعتب :" اخجلني ما آل إليه بلدي وانا كنت اتشدق بجماله وحضارته وصمود اهله ..كيف سأقنع اولادي ان بلدي حضن دافىء وهم يشمون رائحة الموت في أركانه ..كيف سأتباهى بما سيكون عليه في المستقبل وحاضره ملبد بغيوم الشقاق واليأس من التغيير ..
تركتها (تفضفض ) همها ولم أقل لها :" عودي " فأنا مدركة أنها لن تعود فقد استقرت الأشياء لدرجة ان فكرة تغييرها تبدو مسألة غير معقولة...فجاة انقطع الاتصال لانقطاع التيار الكهربائي لدينا بسبب هطول المطر بغزارة ..وعلى الفور ، غابت صديقتي وهمومها من بالي وصرت افكر بما سينتج عن المطر من أضرار وكوارث جديدة ..في بلدي الأثير !
امهات.. في المنفى
[post-views]
نشر في: 23 نوفمبر, 2015: 09:01 م