يوماً إثر آخر يتأكد لنا فشل حكومتنا الفيدرالية ومعها حكوماتنا المحلية في إدارة أبسط شؤون البلاد، ولكي نتحدث عن الفشل هذا، سنقتصر بالحديث عن البصرة بوصفها مدينة سياحية بامتياز. فقد هيأ لي بعض الأصدقاء رحلة بحرية داخل مياه خور الزبير، التي انتهت عند نقطة الميناء والأرصفة ومقر القاعدة البحرية حيث ترسو بارجات الكهرباء التركية هناك وحيث تعمل حفارات شركة الموانئ على تعميق مدخل الميناء وتوسعته.
تحت شعار(أمانة ألله ورسوله)عند نقطة قريبة من جسر شط البصرة يترك صيادو الأسماك زوارقهم، يشغـِّلون محركاتها عند أعلى نقطة في المــدِّ وبحركة بهلوانية لا يُجيدها إلا هُم، يصعدون بها الساحل الرملي، يتركونها اليوم واليومين والاسبوع بعد عودتهم من رحلة الصيد المُضنية، في أعماق خليج خور الزبير، حيث البحر عميق هناك وينأى عن نقطة انطلاقهم بمسافة تزيد على ساعة سيراً بالزوارق التي تشتغل بمحركات البنزين السريعة، على الساحل الرملي الطيني يتركونها غير آمنة، عرضة للتخريب والعطلات ولا يعني أمرهم أحد هناك، فالحكومة المحلية غائبة في النقطة تلك تماماً!
يؤسفني أن أقول بأنني لم أرَ البحر من جانبه هذا من قبل، فقد رأيت البحر من نقطة في شبه جزيرة الفاو ورأيته في ميناء أم قصر، لكنني وجدت فسحته في خور الزبير تتسع لعشرات ومئات المشاريع الصناعية والسياحية والتجارية لكن غباء وجهل الحكومة تسبب في تركها بوراً خالية من أي نشاط، ولولا الجهد البسيط الذي يقوم به عشرات الصيادين لكانت المياه والأرض المحيطة بها قفراً إلا من الموج والريح والشمس والنوارس التي أضفت على الفسحة العريضة هذه من الجمال والغربة في آنٍ ما يجعلنا نندب حظ سكان مدينتنا من الذين لم يروا البحر العظيم هذا مرة في حياتهم.
قد لا أستطيع وصفاً ملماً بتضاريس وجغرافيا الأرض والماء لكنني أقدر بأننا سرنا بالزورق، وسط الماء المالح العريض قرابة 80 كم، من نقطة انطلاقنا من ناظم البصرة حتى منتهى الرحلة عند مقر قيادة القوة البحرية، في مجرى مائي يضيق ويتسع وتتخلله الكثير من الخيران، وهي تسمية تطلق على أي مجرى مائي بحري احتفرته مياه المــد والجزر، عبر دخولها وخروجها منذ آلاف السنين. البحارة الصيادون يسمون الأماكن التي لم تسمَّ من قبل بأسماء افتراضية، في محاولة ضد التيــه والضياع وسط الظلمة التي تطبق أحيانا في ليالي الشتاء خاصة أو في تعريف للأمكنة التي يكون الصيد فيها وفيراً أو شحيحاً. فأسماء مثل أبو رمانة وحردان وصبحة والحفـّار ووو، ما هي إلا مساحات شاسعة من المياه، يدخلها صيادون ويخرج منها آخرون، لا تقوم على عنايتهم سوى الذات السماوية في متوالية للبحث عن الرزق وتأمين العيش.
منطقة خور الزبير هي المساحة الشاسعة المنخفضة من الأرض والمياه الغزيرة التي تنحصر بين الطريق المؤدي لقضاء الزبير ومدينة خور الزبير وأم قصر غرباً وبين الطريق المؤدي لقضاءي أبو الخصيب والفاو شرقاً، أرضها رملية طينية، قريبة جدا من مستوى سطح البحر، نحو متر واحد، وهي خالية من أي مظهر للحياة، فلا سكان ولا مصانع ولا نشاط مدني، لكنها واحدة من أجمل المناطق السياحية في المنطقة، لو أُستثمرت بشكل صحيح، إذ أن مياه المــد ترتفع لتغمر الضفاف ثم تنسرح في الجزر لتكشف الأعماق، وهي من وجهة نظر عارفة مشروعاً سياحياً ناجحاً جداً، إذا ما استقدمت شركة عالمية وجعلت من الأرض هذه ساحلاً عاماً للسباحة، إذ بمجرد مسح الأرض بالجرافات لتكون منحدرة منسابة ومن ثم فرشها بالرمل البحري الخاص بالبلاجات سيكون لدينا ساحل بالقدر والجمال الذي نريده، خاصة وان المدينة الرياضية لا تبعــد عن المكان إلا بضعة امتار.
تُرى، ماذا لو أن الحكومة المحلية عرضت المشروع على شركة محلية أو عالمية وخططت لهذا الغرض، وجعلت من المنطقة الجميلة هذه قبلة سياحية لسكان البصرة والعراق بعامة، والأمر ممكن متاح وبسيط ولا يكلف إلا القليل من المال، ثم أنه ناجح استثمارياً واقتصادياً؟ ماذا لو أنها بنت رصيفاً صغيراً يستودع البحارة المساكين وصيادو الأسماك زوارقهم عنده؟ وماذا لو أقامت بتشييد مجموعة أكشاك صغيرة تؤمِّن لهم أمتعتهم وحاجاتهم ومستلزمات عملهم؟ ما الضير في مساعدة هؤلاء ببعض من ضرورات السلامة والأمان؟
توسعة السواحل البحرية قضية وطنية، وإذا كانت حكومتنا المحلية بغبائها وجهلها لم تتنبه لذلك فمن واجبنا نحن الذين نرى الحياة بعين وطنية صادقة أن ننبه، من واجبنا أن نلفت عناية ذوي السلطة في بغداد إلى اننا محكومون من قبل أُناس شغلتهم مصالحهم الشخصية وخلافاتهم الحزبية عن الأخذ بيــد سكان المدينة الى بــر المكان، وهي مصرِّة على جعل الحياة مأتماً أزلياً ومقبرة واسعة، في ظنّ غبي منها بأنها إنما تأخذ بأيدنا الى الجنان، فيما نحن نعيش ونكتوي في الجحيم الذي بنته بغبائها المفرط لنـــا!
الجنـَّة في ميـاه خـور الزبير
[post-views]
نشر في: 24 نوفمبر, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
محمد سعيد
اخي الكاتب الحريص علي بصرتنا الضائعه فالحكومه المحليه واصحاب الشان في المحافظه منهمكون جدا ليس فقط في ترتيب امورهم الخاصه ,بل يعملون بجد ومثابره لتنظيم مناسبه الزياره الاربعينه وجعل اللطم باساليب متميزه وراقبه , خصوصا حينما تصاعد عمق تفكيرهم