ينشأ انطباع عام لدى مشاهد لوحات فيصل لعيبي بتشابه الوجوه والثيمات والأشكال في مراحل مختلفة، وكأن الفنان منهمك في رسم لوحة سردية طويلة يمتد سطحها التصويري مسافة تغطي خمسين عاماً من القطوعات التاريخية والمعرفية، وتختلف فيها المؤثرات والمصادر، ينتقل الف
ينشأ انطباع عام لدى مشاهد لوحات فيصل لعيبي بتشابه الوجوه والثيمات والأشكال في مراحل مختلفة، وكأن الفنان منهمك في رسم لوحة سردية طويلة يمتد سطحها التصويري مسافة تغطي خمسين عاماً من القطوعات التاريخية والمعرفية، وتختلف فيها المؤثرات والمصادر، ينتقل الفنان من جزء إلى جزء ثم يعود إليه ليكمله في مرحلة أخرى.
وهذا الانطباع مثيل لما قد يتولد عند مشاهدة بيكاسو وهو يرسم لوحته الجورنيكا في شريط سينمائي مركب من لقطات متتابعة. إلا أن لوحة فيصل الطويلة التي قد يستوحي مقاطعها المرسومة من المحيط الذي يتأثر به، لن تكتمل أبداً ما دام الفنان حياً يزود لوحته من مادة ضميره الحي وديمومته ومسؤوليته إزاء قضايا عصره. وهي لوحة تلخص تاريخ الفن التشكيلي العراقي بتحولات كل مرحلة وتأثيراتها القوية في ذاكرته وأسلوبه. وخير شاهد على هذا الانغماس الحدثي المباشر اهتمام الفنان بحوادث بلده ومواطنيه بعد سنوات من هجرته في أواسط سبعينات القرن الماضي وتعاطفه الشديد مع أصدقاء له أدركهم التحول الدراماتيكي بعد دخول القوات المتحالفة بغداد في نيسان 2003. فلكأنه يسترجع بهذا التماس العاطفي علاقته القريبة بزملاء درسوا الفن معه في المعهد والكلية، ويتمثل أمامه رفاق العمل الصحفي في جرائد العاصمة ومجلاتها خلال فترة الستينات الماضية، ولكأن هؤلاء جميعاً يمرون على لوحته الطويلة وينعكسون فيها أو يدخلونها ويعلقون على تفاصيلها لحظة بلحظة، كما يحدث اليوم على صفحة تواصله على الفيس بوك.
الانتقال البعيد للفنان إلى خارج العراق لم يقطع صلته الرمزية بموقع الانتاج المحلي (الصحفي والمدرسي) الذي بدأ فيه محاولاته الأولى في التخطيط، ثم بما طوره بعدئذ من أسلوب الكتلة الصلبة المستوحاة من النحت العراقي القديم، وما عرج عليه لرسم الكتلة الواقعية المتمثلة في النساء النائحات على أبنائهن الشهداء في سبعينات القرن الماضي من ضحايا الاضطهاد والقمع الديكتاتوري وضحايا حروب الخليج في العقود التالية، وهو يوازي برؤيته اليوم مسير التظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، ولم ينقطع بين هذه الأجزاء عن العودة إلى استلهام محاولات المدرسة البغدادية وخاصة محاولات جواد سليم في تأسيس أسلوب عراقي يتمثل المنظور المسطح في منمنمات الواسطي. لكن المرحلة الحاسمة لعمل فيصل لعيبي كانت في توسيع الجزء الذي صور فيه مشاهد من الحياة الشعبية العراقية بأسلوب الجداريات المكسيكية الكبيرة والتركيز على شخصياتها اليومية كالحلاق والبقال وعامل المقهى والخياطة وبائعة الباقلاء وغيرهم. كان انتقال لعيبي من المحيط الصغير إلى محيط عالمي أوسع تنفيذاً لرغبة في تأسيس صلة دائمة بمصادر الحلم العراقي، بعيداً عن مؤثراته السلطوية، وكان من جيل بدأ يتحسس منافذ الخروج والاستطلاع في وقت مبكر من القرن الماضي، بعد افتراق المسير مع السلطة الجائرة، وخيبة الأمل بتحولات ثورة تموز 1958. لكن الحلم أصبح حقيقة شارك فيها أصدقاء لعيبي الذين درسوا معه الفن في بغداد، وجذبهم العمل الصحفي، الحكومي والحزبي، قبل أن يتعرضوا لسوء الفهم المتبادل مع السلطة الحاكمة آنذاك، وأفول السحر البغدادي في عيونهم.
وهنا نتساءل: هل انتهى عمل فيصل على لوحته وأنجز مهمته فيها عند مفصلها الأخير؟
نقول من هذا الطرف الذي يقع في طرف اللوحة الطولية، أن عمله الفني انعطف ليتخذ نسقاً دائرياً تعود فيه النهايات على البدايات، فيتأكد اتصاله الرمزي بأعمق تقاليد الفن التشكيلي العراقي التي تعرضت إلى القطع والاندثار بتأثير الحروب والاضطهاد السياسي والفكري، يعود إليها ليملأ فراغاتها الناقصة. لقد زار فيصل لعيبي مسقط رأسه، مدينة البصرة، بعد أربعين عاماً من مغادرته العراق، موثقاً صلته بالحلم القديم، ومجدداً لروحٍ أنهكها السفر والسؤال عند مفارق الرحلة؛ أكان على حق عندما ترك الحلم ممزقاً ودامياً عند منعطف الهجرة الفاصل بين حدين واختيارين مصيريين؟ نعم. كان على حق. ومن شاركه الرحلة كانوا كذلك.
تُوهِم التمفصلات الكثيرة لتجربة الفنان لعيبي النقد التشكيلي بوجود خط تطوري، وتراكم أسلوبي في تجربته الفنية الطويلة، تتبادل خلالها الأشكال والمنظورات مواقعها حول محور دلالي يرتبط بجذر النشـأة الوطنية الأولى، فهو فنان عالمي برؤيا محلية تراكمية. أما التماثل الظاهر على موضوعاته المحورية فيقربه من النزعة الرمزية للفن الرافض للاستغلال والاحتجاج على الاوضاع البائسة للشعوب المغلوبة والمستعبدة بإرادات دكتاتورية داخلية ودولية قاهرة. وهي نزعة متجذرة أيضاً في شخصية الفنان من النشأة البوهيمية والراديكالية في مرحلة الشباب والدراسة. غير أن نظرتي التماثل والتراكم هاتين، تغفلان التحولات التمفصلية الارتدادية المنصهرة في مسار غير تطوري، ساهمت في صنعه وتحديده عوامل فنية وثقافية وأنثروبولوجية غير قابلة للفرز والقياس والتمسطر. فالفطرة والسذاجة في فن تقليدي قد تصنعهما عوامل صناعية رأسمالية متطورة في فنون غربية معاصرة (تجربة الفن الفطري لدى هنري روسو وغوغان وفرناندو بوتيرو، مثلا) غير أن فن المنمنمات التقليدي ومؤثراته الشرقية في فن فيصل لعيبي انعكس عن اغتراب وانفصام المسار المحلي عن عوامل تطورية شكلية وزخرفية عالمية حطت من قيمة الأثر الفني ودوره الاجتماعي والسياسي، كما لاحظ جواد سليم في كلمة افتتاح معرض جماعة بغداد على ذوق العائلات البغدادية البرجوازية التي حضرت المعرض في منتصف القرن العشرين، وكانت جدارياته (أهمها نصب الحرية) تمثيلاً فنياً مغايراً لظاهرة التماثل والتراكم العالمية، في نزعة الفن العراقي بجوانبها الواقعية والرمزية والأنثروبولوجية. لذا فإننا نستخلص من المفصل الأخير في لوحة فيصل لعيبي الطولية أفاريز جدارية تؤطر هذه النزعة الأصيلة بمنمنات غير خاضعة لمقياس التماثل والتراكم في نزعته العالمية المعاصرة، بغض النظر عن الخامات والتقنيات الصناعية والتصويرية، والأسواق الفنية والإعلامية التي تروج لها. ففي سوق دبي المعروفة بقيمتها التجارية ومنافستها لأرقى الأسواق الفنية العالمية، حققت لوحات معرض فيصل لعيبي (الأوجاع والمسرات) المقام في شباط 2015 مبيعات ساحقة، واقتنيت عن آخرها من مشترين متنوعي الأجناس والأذواق، ما يؤكد استقرار تقاليد التجربة المتمفصلة في تراكمات وتماثلات عدة، واختراقها حاجز النظرة الفنية التطورية الزائفة، من خلال تمثلات اللوحة العراقية لتقاليدها المستعادة بحس راقٍ وتجهيز حرفي متقن.
يعتقد فيصل لعيبي أن العمل الفني حرفة يدوية وتقانة تتطلب الحفاظ على أوليات التقليد، واستجابة واعية لتحديات ميديا الفن ومفاهيمها المتغيرة وتطبيقاتها الواسعة في وسط غريب ومتغير، ويبدو لي أن الفنان فيصل قبل بهذا التحدي وحقق تقدماً ونجاحاً في هذا المجال الخطر بما يتمتع به من مزايا شخصية أصيلة تتمثل في صحوة الضمير وطاقة الفن التقليدية وصفاء الرؤية. وهي مميزات لم يستطع فنانون كثيرون صونها عندما انتقلوا من محيطهم المحدود إلى محيط عالمي أوسع.
جميع التعليقات 1
Hey Dizayee
فنان عريق مثل فيصل اللعيبي يجب أن يكون صادقا مع محيطه ومع بلده الأصل والبلد الذي يعيش فيه ويكون قدوة للفنانين والشباب. وكما ذكر الكاتب في معرضه الأخير لوحاته كلها بيعت. ومبيعات الوحات جاوز المليون وللأسف ومنذ أكثر من 25 سنة يعيش في وسط لندن في مسكن وعلى ح