TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في الطريق الى متحف مالمو

في الطريق الى متحف مالمو

نشر في: 27 نوفمبر, 2015: 09:01 م

كانت رغبتي شديدة في زيارة متحف مدينة مالمو أثناء وجودي في هذه المدينة التي تقع جنوب السويد، تملكني الفضول ودفعني حب الاطلاع الى ذلك، أنا القادم من هولندا، بلد المتاحف والتاريخ العريق في الرسم. زيارتي للمدينة كانت لغرض أعطاء محاضرة عن أعمالي والحديث عن الكتب التي صدرت في هولندا عن تجربتي التشكيلية، حيث استضافتني مؤسسة (ننمار) في المكتبة الرئيسية في مالمو. انتهت المحاضرة والعرض الذي قَدَّمْتهُ بتفاعل جميل من الحاضرين، وبَقيتُ بعدها بضعة أيام أتنقل في أطراف هذه المدينة الواسعة أجوب شوارعها واطّلع على غاليراتها ومقاهيها وأحتَكُ ببعض ناسها الذين انحدروا من جنسيات عديدة. وهكذا الى أن جاء يومي الأخير واقتربت زيارتي للمتحف.
ظهرت البوابة المرتفعة من بعيد وهي تخفي وراءها قلعة كبيرة تعود الى سنة 1607 والتي حولتها البلدية الى متحف للمدينة. وقفت بصحبة الشاعر جليل حيدر نتأمل هذا التاريخ الذي بدا أمامنا واثقاً يرمقنا بحجارته المائلة الى الحمرة وقد بانت آثار الزمن على كل زواياه. كان علينا أن نعبر الجسر الخشبي الذي يربط الشارع بالقلعة المحاطة بالمياة لنصل الى البوابة، بعدها دلفنا الى الداخل وارتقينا درجات السلّم الواسع نحو الأعلى لنجد أنفسنا وسط مجموعة من الفعاليات والمعارض والنشاطات المختلفة.
في الأروقة المحاذية للسلّم كانت هناك رسومات بالأسود والأبيض للفنان كارل لارسن، رسمها بطريقة تقترب كثيراً من رسومات عصر الباروك، تفاصيل مدهشة وخطوط منسابة بحرية ونعومة وتَمَكُن واضح، يقف وراء كل ذلك موهبة فذة لفنان يعرف ماذا يريد. دخلنا الى قاعة جانبية ليواجهنا معرض بعنوان (قوس قزح في الظلام) حيث عرضت فيه أعمال فوتغراف وُظفَتْ فيها لوحات لرسامين مثل يرون بوش ورافائيل وغيرهم من الكلاسيكيين ومُنتِجَتْ مع صور فوتغرافية حديثة لتثير الصدمة والمفاجأة لدى المشاهدين. وقد ضم المعرض أيضاً أعمال أنستليشن وأفلاما قصيرة توزعت على قاعات صغيرة هنا وهناك، وكانت كل المعروضات تقريباً تسلط الضوء على الثقافات والمعتقدات المختلفة حيث يمتزج الشرق مع الغرب في أعمال فنية تحمل الكثير من الدلالات التي تغطيها مسحة واضحة من التراجيديا.
عُدنا الى القاعات الرئيسية لنطلع على المجموعة الدائمة للمتحف حيث استقبلتنا في البداية مجموعة من الأعمال التي بدت شخصياتها تراقبنا بنظراتها أينما ذهبنا، وكأنها تعيش هنا الى جوارنا في هذه الردهة الواسعة. بعدها شاهدنا مجموعة مدهشة من البورتريهات الكبيرة الباهرة، وقد رُسمت بطريقة واقعية تعلوها مسحة من الغموض لشخصيات تبدوا أرستقراطية في جلساتها وملابسها وإيماءاتها المختلفة، وهي تعود لرسامين عديدين لكن أساليبهم متقاربة ومهاراتهم في الرسم لا تخفى على أحد، كانت متعتنا كبيرة ونحن نتحاور ونتحدث عن هذه البورتريهات وتقنيات رسمها وكيف أمسك الرسامون بسحنة الوجوه ليثبتوها على قماشات الرسم الى الأبد. كانوا يدفعون حساسيتهم الى أقصاها وهم يعكسون الضوء على طيات الملابس والخلفيات المصنوعة بعناية فائقة، فهنا تتمدد امرأة جميلة وهناك يجلس رجل شاب بكامل أناقته التي تعود الى بداية القرن العشرين. كانت رؤية هذه البورتريهات الكبيرة بمثابة هدية ثمينة أعطتها لي مدينة مالمو، بل منحني إياها صديقي الشاعر جليل حيدر الذي رافقت خطواتي خطواته نحو هذا المتحف الجميل. قرب البوابة التي تقود الى الخارج مددت يدي لألتقط بعض المطبوعات الخاصة بالمتحف ومعارضة وبرنامجه لهذا الموسم، حملتها ووضعتها في حقيبتي لأطلع عليها أثناء عودتي الى البيت. خرجنا من المتحف ليستقبلنا ضوء النهار الرمادي ونسيم الشمال المصحوب ببرد خفيف، لنكمل طريقنا نحو مركز المدينة. هناك ودعت صديقي جليل حيدر ومضيت لأهيئ حقيبتي من أجل العودة، وحين ذهبنا كُلٌ باتجاه، توقفت فجأة لألتفت اليه وقد بدأ يغيب بين المارة وتختفي خطواته وسط الناس في مركز المدينة. ياله من مشهد يختصر كل الغياب. أكملت طريقي وأنا أتأمل هذه الفكرة، فكرة غياب الشاعر وغياب المدينة التي ذاب وسطها والتي سأغادرها أنا أيضاً بعد وقت قصير. مضيت وسط الزحام مبتسماً وأنا استعيد حضور وروعة اللوحات التي شاهدتها وتمتعت بها قبل قليل وأنا أختفي أيضاً شيئاً فشيئاً بين العابرين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram