من يؤثر على الآخر ومن يصنع مجد الثاني، الفنان أم الموديل؟ من يعيش في الآخر، الرسام الذي يقضى جزءاً كبيراً من حياته باحثاً عن المثال الذي سيفتح له نافذة المجد والسير في طريق الفن بكل ثقة وقوة وتأثير، أم هو الموديل الذي يحتاج الى فنان يخرج النور من روحه ويمنحه خلوداً يستمر الى الأبد؟ من الذي يشعل شمعة ليضيء الدرب للآخر، ومن الذي يمسك تلك اللحظة العابرة ليثبتها في التاريخ الى الأبد؟ ليجعلها حدثاً نادراُ وهو يهيئ الجمال لأجيال عديدة قادمة تنهل العذوبة وترتوي من هذا النهر الخالد، نهر الفن الذي لا يتوقف مجراه على مرّ السنين.
أمثلة كثيرة في تاريخ الرسم تعكس العلاقة الخلاقة بين الرسام والموديل، والالهام الذي يمنحه أحدهما للآخر، والخطوات التي يقطعانها معاً للوصول الى تلك الكنوز التي نشاهدها الآن وهي تزين متاحف الفن وتمنحنا كل هذه السعادة. فكم كان رائعاً أن يستجيب الدكتور جاشيه لطلب فنسنت فان غوخ ويجلس أمامه كي يرسمه، هو بهذا الفعل المدهش قد أوصل لنا صورته وهيئته العامة وجانبا كبيرا من شخصيته، كيف يجلس وكيف يلقي نظراته الحائرة بوجه الرسام، بعينيه الذابلتين وقبعته الصغيرة التي تظهر على جانبيها خصلات شعره الأحمر المجعد مثل شجرة سرو صغيرة، وكأن فنسنت أراد هنا أن ينقل شيئاً من تعبه النفسي على وجه وهيئة الطبيب نفسه. كذلك العم تانغي الذي كان يعطف على فنسنت ويساعده بتوفير الألوان من محله الصغير الذي كان يبيع فيه أدوات الرسم، حيث أجلسه فنسنت على أريكة ووضع خلفه بعض الرسوم اليابانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت، هكذا ظهر تانغي العجوز مبتسماً شارد الذهن وهو يشبك أصابع يديه في أجمل وأهمّ بورتريت رسمه فان غوغ على الأطلاق، وربما لا أكون مغالياً حين أقول بأنه واحد من أجمل خمس بورتريهات في كل تاريخ الرسم.
ألم يحلل علماء النفس وكاتبي سيرة الفنان سوتين، شخصيته من خلال البورتريت الذي رسمه له صديقه المقرّب مودلياني؟ حيث يظهر سوتين العبثي البوهيمي بهيئة غير مبالية بشعره الأسود المنسدل على جبينه وياقة قميصة التي يختفي أحد طرفيها تحت سترته الداكنة بطريقة فيها الكثير من اللامبالاة؟ نعم كان هذا البورتريت الرائع هو المفتاح الذي أوصل لنا الكثير حول هذا الرسام غريب الأطوار.
وماهي المشاعر التي كانت تنتاب الرسام ريبين وهو يشرع برسم بورتريته الشهير لتولستوي، وهل كان اختيار التكوين عابراً حين جعله يتمدد على الأرض بكل بساطة وتجرد؟ فبالاضافة الى التقنية المدهشة والعبقرية الفائقة في الرسم لأعظم فناني روسيا، فهو أراد هنا أن يقرّب تولستوي من الأرض التي أحبها ومنحها في النهاية للفلاحين الذين كانوا يعملون عنده، وهكذا اصبح تولستوي جزءا من تاريخ هذه الأرض التي ينتمي اليها بروح الانسان وروح الفلاح الروسي معاً. وهنا نرى الرمزية العالية حتى في اشد اللوحات تمثيلاً للواقع.
الكثير من الرسامين أحبوا موديلاتهم النسائية وارتبطوا بها بعد اللوحة الأولى والى الأبد، كما أحب ريمبرانت ساسكيا وتزوجها لتكون موديله المفضل حيث رسمها في أشكال ووضعيات مختلفة بانت فيها عبقرية رسام الباروك الهولندي إضافة الى محاسن ساسكيا وحضورها الذهبي الأخاذ. وهناك الرسام البريطاني روسيتي الذي هام بشكل وسطوة جين موريس لتصبح آلهة الجمال بالنسبة له وقد أوصل لوحاته التي رسمها فيها الى قمة ما يسمى بـ (ما قبل الروفائيلية). ومهما تكن أساليب الرسامين ورؤيتهم وطريقتهم في الرسم، فهناك الكثير من الأمثلة التي تكشف وجه العلاقة بينهم وبين الموديلات التي تشعل لهب الأبداع في مخيلاتهم وأيديهم وتقودهم الى دروب غامضة، مليئة بالغواية والسحر والعجب.
عبقرية الفنان وكمال الموديل
[post-views]
نشر في: 4 ديسمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...