TOP

جريدة المدى > عام > يبقى الشعر حاضراً في الأشكال كلّها

يبقى الشعر حاضراً في الأشكال كلّها

نشر في: 6 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

لا نستطيع انكار ان كتابة الشعر نثرا، مسالة جاءت في سياق تاريخي مرتبك. فلو عدنا إلى اليونان، والبداية الأدبية المهمة هناك اكثر رسوخا ومرجعية، نجد ان اعاريض الشعر كانت الميزة الاولى التي تقول: هذا شعر. ولكن الغريب ان نثر الخطب ما كان يخلو من اعاريض، وا

لا نستطيع انكار ان كتابة الشعر نثرا، مسالة جاءت في سياق تاريخي مرتبك. فلو عدنا إلى اليونان، والبداية الأدبية المهمة هناك اكثر رسوخا ومرجعية، نجد ان اعاريض الشعر كانت الميزة الاولى التي تقول: هذا شعر. ولكن الغريب ان نثر الخطب ما كان يخلو من اعاريض، وان كانت غير ملزمة. وكان الاختلاف في ان على الشعر الا يكثر من النثرية كي لا يفسد وعلى الخطابة الا تكثر من المجازات كي لا تفسد لأن الخطابة تحتاج لشد انتباه السامع في الواضح المثير.
والحقيقة، كان في نثرنا العربي، ومنذ الجاهلية حتى التفوق العظيم في القرن الرابع الهجري- اقول كانت فيه اعاريض لكن غير منتظمة وهي وراء جماليات السبك. وقد اوضحت هذا يوما في ورقة نقدية في المربد قبل الاخير. ولأن موضوع العروض والمقارنة بين جملة النثر ذات الشعرية النظمية وجملة الشعر الايقاعية لم يكن ضمن القراءات السائدة مع شيوع قصيدة النثر والمهتمين بها، كان للموضوع الذي قدمته غربة مما دعا صديقا ناقدا، لان يعقب (من مكانه) اين نحن الان والعروض؟ لم اجبه وحتى اليوم، فانا في واد وكان هو في واد. وانا اعرف جيدا ضرورات ما اتحدث عنه وصلته بالبلاغة العربية وجماليات الاسلوب.
مهما يكن، كتابة الشعر نثرا توفر جهدا يضيع في تطويع الكلام للبحور وتوفر جهدا يمكن ان يكون للاهتمام بالشعر لا بأُطره  أو مكملاته. لكن حين سئل الشاعر و.هـ.أ ودن عن كتابة الشعر نثرا وانها تنقذنا من متاعب رسم العبارة الموزونة وتطويعها، أجاب: وأين هي متعة الشاعر؟ اليست في التغلب على هذه والانتصار على العقبة؟
لا تعنيني الان الافضليات ولكني اردت التاكيد على قصيدة النثر وتقدير انها مرحلة من مراحل تطور وظائف النثر العربي. وهذا الكلام لا يمنعنا من القول ان اكثر الشعر في بريطانيا وفي فرنسا وفي دول كثيرة في العالم، ما يزال شعرا مرسلا. يحتفظ باوزانه المقطعية وان لم يحتفظ بالقوافي دائما. توجد قصائد نثر ومنذ القرن التاسع عشر، لكنها قليلة بالنسبة لحجم ما يكتب وينشر من شعر.
مشكلتنا  اننا نقرا الشعر الاجنبي مترجما نثرا من اليوناني إلى شكسبير (الاليزابيثي) إلى شعراء اليوم. هذا جعل اكثرنا يظن ان زعماء التحول الحداثوي الكبار: ازرا باوند، اليوت ورامبو وبودلير وكل الاوروبي الحديث هو مكتوب نثرا. في الحقيقة القليل جدا منه نثر وهو أسوأ ما فيه مثل قصائد (السأم) ليودلير التي هي شبه مقالات أو خواطر فيها ضربة شعرية. اما بقية الشعر الاوروبي والامريكي فيكتب حتى اليوم بتفعيلاته المقطعية لكننا حين نترجمه لا نتمكن منه الا نثراً واسباب ذلك كثيرة.. ، هذان بيتان لازراباوند لاحظ القوافي والوزن في النص الانجليزي:
There is no such landcastels
Where an Englishman is free
To read his smutty literature
With muffin at his tea.
لن تجد قلاعا كهذي
حيث الانجليزيُّ حرا
يقرأ أدبَهُ السخيم (الملطخ بالسخام)
ويتناول رقائقه وقت الشاي
لتكن القلاع الارضية أو القصور، ولتكن السخيم أو الملطخ بالسخام ولتكن رقائق أو كعكا- احتراما للمحلية العراقية في تناول الكعك والشاي عصرا... وليكن أي تغيير، تبقى الترجمة فاقدة الايقاع الجميل الذي تميز به النص وضاعت من الترجمة القوافي وبقينا امام النثر فاقد الرونق والسحر. هذا ما يصلنا من الشعر العالمي الذي ندعي الاطلاع عليه!
هذا كان احد اسباب شيوع قصيدة النثر، مثلما كان السبب الاول في رأيي سياقاً تاريخيا وتحولات مجتمع وربما ثقافة وطبيعة فرد. للعلم أيضاً ان قصيدة النثر الوحيدة التي كتبها اليوت، هي قصيدة هستيريا ولم يكررها اثر مراسلة بينه وبين ازرا باوند. الاثنان تخليا عنها، ربما صيانةً للشعر من الانسياح.. فهما والجميع يقرون بان الوزن لا علاقة له بجوهر الشعر الا في اظهار لمعانه. وردزورث قبلهما قال: الوزن حلية اختيارية.
مهما يكن، قصيدة النثر اليوم حاضرة وبشكل واسع، بخاصة عند الشباب. الجيد المقبول قليل. طبعا السبب الرئيس هو سهولة الكتابة فيها، لكن النصوص المتميزة موجودة أيضاً. سبب فوضى الكتابة هذه ان بعض كتاب هذه القصيدة بلا ثقافة حقيقية راسخة يزيدها سوءاً ضيق الأفق. فهو ما يزال يتحدث عن حبيبته (المشتهاة)، لا عن الجمال السامي ولا بهجة روحية، ولا هي رمز لأمانينا البعيدة. هو يتحدث بلغة توافق البقال وبائع الخضار: من اين هذا القمر، شمس ثانية شعرك وصدرك.. ثم يضخ تصوراته الجنسية... الخ السقوط الشعري والفكري. كما ان بعضهم يكتب نكاتا وطرائف وهراء يوميا. وهنا لا ادري لماذا لا يكتب ذلك مقالةً أو زاوية صحفية؟ على أية حال، يبقى الشعر قليلا ولكن يبقى الشعر حاضرا في الاشكال كلها! وهنا العزاء الجميل.
ولكي نربط رؤيتنا باصولها التاريخية ولا تكون طارئة، اشير إلى بذور الدعوة لقصيدة النثر ومآخذها فيما قاله "سدني" وهو يرد على افلاطون بعد قرون ويحاججه فيقول:
"ليس النظم الا زخرفا ولا يمت إلى الشعر بسبب.. وانه ليس القافية
والوزن ما يخلق الشاعر كما الطيلسان السابغ لا يخلق محاميا...."
وفي الوقوف ضد ركة الاسلوب وسقوط اللغة، يقول:
"على الشعراء الا ياتوا بالالفاظ حسبما يتفق كالذي يثرثر في مجلس أو الذين يتحدثون في نومهم، انما يزنون كل مقطع وكل كلمة في تناسب دقيق حسبما تتطلبه مكانة كل موضوع....".
هاتان، كما هو واضح، اشارتان، واحدة لايجابية قصيدة النثر وثانية لما نأخذه على لغتها في احيان كثيرة أو في السائد منها. فلو ارتقت العبارة وحظيت الجملة بجمال الصياغة لنجونا من هبوط المستوى. اما الموضوع والافق، فكل شاعر ومستواه. نحن نفرح لمن يرتقي لغة وفكرا ونأسف لمن يظل ضيق الأفق يلوك الاعتيادي مبتهجا باطراءات من هم في مستواه ممن يتبادلون الاعجاب.
اتمنى لنفسي وللآخرين ان نبدا الكتابة بجدية اكثر مما يجعل لكتاباتنا قيمة حقيقية محترمة!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram