TOP

جريدة المدى > عام > رؤيا الواقع في.. "سعدي الحلي في جنائنه"

رؤيا الواقع في.. "سعدي الحلي في جنائنه"

نشر في: 12 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

تستعيدنا تجربة الشاعر العراقي موفق محمد الى قراءة شعريته باللّون الذي تمتع به وانفرد بأدائه ، ذلك ان الشعرية العراقية منذ بواكير الحداثة الاولى حاولت فعل الاستحداث والمغايرة ، فكانت هناك تجارب اسست قاعدة الريادة التي اخذت فضاءات واسعة الى يومنا هذا ،

تستعيدنا تجربة الشاعر العراقي موفق محمد الى قراءة شعريته باللّون الذي تمتع به وانفرد بأدائه ، ذلك ان الشعرية العراقية منذ بواكير الحداثة الاولى حاولت فعل الاستحداث والمغايرة ، فكانت هناك تجارب اسست قاعدة الريادة التي اخذت فضاءات واسعة الى يومنا هذا ، والشاعر موفق محمد في جلّ تجاربه كانت له ملامح الانفراد بقصيدة لامست الذوق العام بكل طبقاته ومستوياته منذ (الكوميديا العراقية) مرورا بالمجاميع الشعرية (عبدئيل، وبالتربان ولا بالعربان، وغزل حلي ).. الاّ ان الكتاب الشعري (سعدي الحلي في جنائنه ) الصادر مؤخرا له صبغة شعرية خاصة ، لأمر يتعلق بطريقة اللّعب المهاري /اللّغوي  ـ اولاّـ ولأهمية الموضوع المتناول ـ ثانياً ـ ..
(سعدي الحلي في جنائنه )، كتاب شعري ،جاء بلغة تمازج فيها الخطاب الشفاهي بجذوره المقتبسة من صوت المطرب ذاته ومن توليفة الشاعر لبعض المقاطع المباشرة من ألفاظنا اليومية ، لذا تكمن أهمية هذا الاشتغال على فعل الانفراد الواضح لطريقة الشاعر في بناء قصيدة ذات نبرة خطابية شاملة لا تقف عند خصائص الايقاع الفني بقدر ما تتمتع به من خصائص تحريضية مؤثرة ، كما ان القدرة على تقديم شكل شعري حاضن لكل مستويات البناء ، ان هو الاّ مغامرة ، لكن عند موفق محمد أصبح تأسيساً ، لأمر يتعلق بالرؤيا وابعادها التي تجعل من كل الثيمات المتنافرة ، متقاربة في الذوق والاحساس معاً ، بخاصة اذا ما سمعنا الشاعر وهو يقرأ النص بصوته ..
صحيح ان النص الذي قرأناه غلبت عليه العناصر النثرية والوزنية واللّغة الشعبية ، الاّ انه انساق للاحساس الداخلي وفعل الدهشة والمفارقة والبناء التخيلي للغة متوهجة وفاعلة ، بل وصادمة الى حد القناعة التي تؤكد ان الشاعر وريث النواح السومري الممتد الى يومنا هذا ..
إن وظيفة الشاعر في تجربته هذه ، ، تنطوي على ادامة مشروع القصيدة الناقدة ، وخلق لغة شعرية تتداخل معها عوامل فنية اخرى ، وسعدي الحلي النموذج الوافي لذلك ، كما ان القصيدة بكل ما تحمله من فضاءات فاعلة من حيث الاشكال الشعرية ، فهي تلتقي في وحدة موضوع وتقرن بمستويات التأثير والتأثر ، فعملية الإثارة من خلال صعود حدة النص تخلق متلقياً من نمط واعٍ وفاعل ، والشعر هنا يأخذ منحى آخر يتحول من فن بنائي الى فن متداول لكافة الاذواق ..
وفي ظل التحولات الكبرى التي نعيشها ، ما عادت القصيدة تكتنف تحت مهيمنات اللغة وتعابيرها وبلاغتها الاستعارية والتشبيهية ، بقدر ما تحمله من خيوط انفجارية توصلنا الى قناعة فحواها ان الشعر جزء مهم وكبير ، بل ومساهم في هذه التحولات ، وما كان الشاعر موفق محمد الاّ ان يلعب دوره في ذلك ويقدم مشروعه المتجدد من خلال استعادة الموروث الفني والحكائي ، وتوظيف حاضر الأزمة المعاصرة بالاضافة الى التناصات الواضحة للنص المقدس ، ليكتمل النص فنياً تحت ما يسمى بما بعد الحداثة ، اعتماداً على اثارة الدقائق المسكوت عنها والمضمرة ، ثم إظهارها على السطح بوصفها فناً شعرياً له وظيفته البائنة على سلوكياتنا ..
(سعدي الحلي في جنائنه) ، نص استمد نبرته من المقاطع الاستهلالية المقتبسة من صوت المغني الحلي ، فكانت بمثابة عتبات (نصية) دخل فيها الشاعر لكتابة جمل (مناصية): (حاير ممتحن شرتكب ياراي ، فكري كله يمك ) و(اجناب نزلو بالطرف يايمة احبهم ) و( آنه وحيد وانتن بنات هوايه ) .. وغيرها من المقاطع التي تدخل معها لتشكل بنية عضوية متماسكة ، منها ما قرأناه في صيغة الأمر الطلبي :
فاطحن زرنيخك يا سعدي
والهمه ممزوجاً مع ما تبقى من نواح
يوقظ الموتى في صدورهنّ .ص10.
مثل هذا البناء الشعري يدخل في اقتران العلاقات الحضورية لثنائية (سعدي ونواحه ) مع مستوى المحنة واستعادتها عبر مراحل وازمان حاضرة في راهننا وفي ذاكرتنا ، وكأننا امام تراجيديا عراقية /كونية استخلصت بنبرة سعدي الحلي ، وبتوظيف مهاري للغة موفق محمد وبمتلقٍ نبيه هاضم للنص ..
ان استعادة ايقونة سعدي الحلي داخل اطار النص الشعري ,انما هو اعادة الوقائع عبر مراحل خطابية عميقة من الوجع العراقي برؤيا معاصرة ، فكانت جميع التوظيفات قد انفتحت بطريقة تناظرية مع مجموعة من الشخصيات والاحداث والفواجع ، اندمجت جميعها لتشكل التجربة التي نمسكها بين ايدينا ونضعها تحت معيار نقدي ، نقرأ :
بطلن لطم مو خلص كلبي ..
كنّا محشورين بثقب الإبرة ..
ونرفل بالدمقس وبالحرير ..
بعد ان اضاف الساسة الجبابرة الملهمون
منجزاً في رحلة جبر ـ العراقي بامتياز ـ ،
فمن بطن امه الى الحروب الى الكبر. ص25.
يوضح المقطع هنا العديد من التحولات المشهدية بلغة مختزلة فما بين (اللّطم)  والحشور في ثقب الأبرة ، ومنجز (الساسة الجبابرة )، تنبثق صورة (جبر) على درجة واضحة من ذلك الانسان الذي سحقته عجلات الألم منذ بصيرته الى حتفه .. وما بين الأزقة وشحناتها المكانية ، وما بين محن الحروب والشهداء والمقابر الجماعية ، وما بين الموروث وتقاليده، وما بين الاحساس باليوميات وحياة المواويل ، يظهر صوت الشاعر بالطريقة الشعرية المكثفة والمؤثرة :
سعدي .. ايها الحليّ
الخبوز في تنانير سومر وأكد
وما زال جمرها يتقد في جبينك
ايها الطائر الأمين
المحلق فينا .. فديتك نفسي,
جناحاك خمر وماء
فطر بي الى حيث تشتبك الاسئلة
ويبتسم الطفل في السنبلة . ص32.
تظهر صورة القصيدة هنا في حالة من التفجر المخيالي لـ(الموما اليه)وتحقق حركة من الوعي العالي في كتابة مقطع شعري ينفتح على دلالات الحس المثيولوجي وبعض الصفات المدعاة للنقاء و التوصيفات المجازية الواضحة ، لكنها صور الشاعر ذاته التي اعتدنا على قراءتها وسماعها ..
وبعد سلسلة من الشواهد والتحولات التي امسكنا بها في هذه التجربة ، فقد تمتع المقطع الأخير في بناء تناصي ، لكنه تناص ينسحب على فعل متناظر مع واقعنا المأزوم ، وباعتقاد خاص أجد هكذا اشتغال هو الغور في مناطق توسيع المعنى بالمهارة التي يتلاعب فيها الشاعر (لغوياً) مثلما يريد فتكون كل الاشياء عنده بموضوعية خاصة، فبعد أن قرأنا (وهم يبيعون الوجبة الأكثر حداثة / في مطابخ الظلاميين/ صبايا بالساطور/ نساء مسكوفات/على حطب الطوائف) ص64 تتضح الخاتمة بمشهدية شعرية/تناصية داخل اطار (المقدس) ، مع وضوح احساس الشاعر وقراءته الشعرية الناقدة (وتعوي الذئاب/ وتدلهم الوحشة حولك / وانت تراهم من خلف شاهدة قبرك / وتضحك من غيابة جبهم /ففي صوتك آلآف السيارة / فأنت الوارد والبشرى هذا غلام ../ وباعوك بثمن بخس )ص65.
فالنزعة العميقة التي جاءت بها الخاتمة، تجسدت بادراك حسي ينطوي على دلالات فكرية وسياسية لفضاء واسع فالمحنة المستعارة تناصياً ، هي ذات المحنة المتكررة عبر ازمان بعيدة ..
(سعدي الحلي في جنائنه)، ملحمة شعرية عراقية انفتحت عبر فضاءات مشحونة بتراث شجي لصوت المطرب (الحلي) ، وبرؤيا التشكل الشعري للشاعر الكبير موفق محمد ، فكان الاحساس بكل الاشياء ينطلق من الهم الوجودي لإنساننا الذي سطرته الحروب اساطيراً ، ومع طريقة الاسترسال وانسراح العبارات بتلقائياتها ، فإن ذلك يعد أهم ميزات الشاعر في جعل جلّ ما يقدمه هو مشروع قرائي مفتوح، فكانت نصيته الشعرية هذه بشموليتها الحاضنة للأشكال ،هي مشروع قرائي معاصر ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram