إذا كنّا سنعالج مشاكلنا كلّها مع جيراننا جميعهم وسائر الدول ونقرّر علاقاتنا بها بهذه الطريقة، فسيأتي يوم لن نجد فيه أي وقت للانصراف إلى حلّ مشاكلنا الداخلية العويصة والمتفاقمة التي تتطلب أن نكون في سلام راسخ مع النفس ومع الآخرين، بل لن تكون لدينا دولة في الأساس.
جارتنا تركيا انتهكت أحكام القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية وقواعد العلاقات بين الدول وبخاصة المتجاورة، بدفعها بعضاً من قواتها المسلحة إلى إحدى مناطق محافظة نينوى، بعيداً عن المناطق التي كان لها فيها وجود عسكري قديم الزمن نسبياً، منذ تسعينيات القرن الماضي، تعلم به الحكومة العراقية ولم تعترض عليه، وتعاملت معه كأمر واقع لم يحن بعد الوقت المناسب لفتح ملفه بسبب المواجهة مع خطر الإرهاب الماحق المتمثل بالقاعدة سابقاً وداعش حالياً.
بعض القوى السياسية وغيرها بدا وكأنه قد وجد في العملية التركية الهدية النازلة من السماء لتصفية حسابات سياسية مع أنقرة، فجيّش الجيوش، الكلامية، مهدّداً أنقرة بالويل والثبور ومتّخذاً إجراءات تلحق الضرر بنا أكثر من تركيا.
بالطبع هنالك فرق بين انطلاق احتجاجات شعبية مناهضة للتمدد التركي ومدافعة عن السيادة الوطنية، وبين أن تتصرف قوى سياسية وقوى مسلحة كما لو أنها هي الدولة، بالتحريض على قطع العلاقات في الحال وإغلاق الشركات التركية التي تنفّذ مشاريع في البلاد بموجب عقود واتفاقات، وحتى التهديد بقتل المواطنين الأتراك العاملين في هذه الشركات!
كل دول العالم تواجه مشاكل مع جيرانها وغيرهم، وأمر معالجة هذه المشاكل يُترك عادة للحكومات وسائر هيئات الدولة المنتخبة وغير المنتخبة، فالدولة هي المكلّفة من المجتمع بإدارة ملفات العلاقات الخارجية مثلما هي مكلّفة بإدارة المجتمع والشؤون الداخلية.
ومن المعتاد أن تعالج الدول مشاكلها مع الغير بمستويات مختلفة تعطى فيها الأولوية والأرجحية للوسائل السلمية عبر الطرق الدبلوماسية، فإن لم يثمر هذا الأسلوب يكون لكل حادث حديث، لكنّ حديث قطع العلاقات والتهديد باستخدام القوة يأتي في نهاية المطاف وليس في بدايته.
الطغاة من نمط صدام حسين هم الذين يذهبون إلى النهايات المتطرفة منذ اللحظة الأولى، وهذا ما فعله صدام بشنّه الحرب ضد إيران ثم ضد الكويت.. والنتيجة الخراب التام والدمار الشامل المتواصلان حتى اليوم.
ارتفعت مطالبات صاخبة بقطع العلاقات ووقف عمل الشركات التركية، بل إن اثنين من مجالس المحافظات بينهما مجلس محافظة بغداد قد اتخذا القرار بايقاف عمل هذه الشركات، فضلاً عن التهديد بمهاجمة القوات التركية، والمؤسف أن مسؤولين حكوميين مشوا في الأثر، كما لو كانوا في منافسة أو مزايدة مع القوى السياسية والمسلحة التي اختارت أسلوب التصعيد.
هذه المواقف المتطرفة لا تخدمنا، فهدف إعادة القوات التركية، وهي محدودة، يمكن تحقيقه بالاتصالات والضغوط المباشرة وعبر الهيئات الدولية التي ينتمي إليها العراق وتركيا. قطع العلاقات ووقف عمل الشركات التركية سيضرّ بنا أكثر مما يضرّ بتركيا. الشركات التركية تنفّذ مشاريع نحن في حاجة ماسة لها، ومصلحتنا تقتضي التعجيل في إنجاز هذه المشاريع وليس تعطيلها الذي سيعني تحمّلنا تكاليف مضاعفة لإعادة العمل فيها إذا ما بقيت متوقفة فترة طويلة.
الموقف السليم الذي يحقق المصلحة الوطنية في ما يتعلق بالأزمة مع تركيا هو أن يُترك هذا الأمر للحكومة والبرلمان، فهذه واحدة من مهماتهما وليست مهمة أي جهة أخرى سياسية أو مسلحة، فليس من الصحيح ولا من المصلحة الوطنية أن يتولى أحد غير الدولة مهمات الدولة.
حلّ الأزمة مع تركيا
[post-views]
نشر في: 11 ديسمبر, 2015: 09:01 م